.
التشابه الثقافي في الأمثال العربية والصينية
بحث للباحث والمفكر البروفيسور تشو ليه سليمان الصيني رئيس جامعة الدراسات الدولية في بكين
الفصل (الأول)
مناشير
مقاربة ما يقوله العرب والصينيون عن الكتاب والعلم، والاجتهاد والاخلاص وغيرها تتفرد مناشير بنشرها على مدار ثلاث فصول
بديهى أن الأمثال تمتاز ببساطة الجمل ودقة التعبير وقوة الأفكار وجمال النغمة وسهولة النطق وشدة التأثير، كما تلتجئ دائماً الى الجمل الشرطية وأسلوب الأمر والجمل المجزومة، الركن والتشبيه والمبالغة والجناس والطباق وما شابه ذلك من الأساليب النحوية والبلاغية للتعبير عن أفكار وآراء ونصائح وخلاصة تجارب، وتكون موجهة إلى الناس لتؤثر فيهم وتغير من سلوكهم، وتتحدث عن علاقة الإنسان بالناس الذين يتعامل معهم، وتتحدث أيضاً عن طبيعة الإنسان والمتناقضات التي تمتلئ بها نفسه : الخير والشر، القوة والضعف، الشجاعة والجبانة، العلم والجهل، الصدق والكذب… لذا تلقّت اعجاباً بالغاً ومحبة شديدة من العلماء والجماهير العامة.
يمكن دراسة انعكاس الأمثال عن الثقافة من مختلف الزوايا، اذ ان الثقافة نفسها تتسم بالعمومية والخصوصية، وبالمستويات والتنسيقات المتباينة، كما أن مجالات الثقافة الروحية واسعة، فهي تتضمن البنية النفسية وأسلوب التفكير والقيم الأخلاقية التي كونتها أمة في مسيرة تطورها التاريخي الطويلة.
لا نبالغ في أن الأمة العربية والأمة الصينية كلتيهما تتمتعان بتاريخ عريق وحضارة باهرة، فقد استنتجاتا بتجاربهما في الحياة اليومية آلافاً من الأمثال التي امتلأت بالأفكار الفلسفية وعبرت عن وجهات النظر والقيم الأخلاقية لأبناء الشعبين العربي والصيني. وأن هذه الأمثال عنصر مهم من العناصر التي تتكون منها لغتهما وحضارتهما، ونفسية من كنز لغتهما، وخلاصة مكدسات لحضارة هاتين الأمتين العظيمتين. إنها كبحر عميق واسع فيصعب علينا أن ندرسها بكاملها، وفي هذا البحث ندرس فقط من زاوية الثقافة الروحية التشابه الثقافي في الأمثال العربية والصينية.
احترام الأساتذة وتبجيل العلم والتعليم
يتمثل تبجيل العلم في احترام الأساتذة والإجتهاد في طلب العلم.
ان الاهتمام بالتعليم من أبرز التقاليد المجيدة للأمة العربية والأمة الصينية. ففي رأى العرب أن جمال الإنسان في فصاحة لسانه. وكان أهل العصر الجاهلى يرون أن البطل الحقيقي لا يجيد الرمي بالسهم وركوب الجواد فقط، بل يحسن تعبير مشاعره وعواطفه بالشعر والنثر بلياقة ولباقة أما في رأى الصينيين فأنه على جميع الناس أن” يثقّفوا ويهذّبوا أنفسهم سواء أكان ملكا أم مواطناً عادياً ويرى العلماء الصينيون القدماء أن” من يجتهد في طلب العلم يكثر علمه”. ومن أقيم المساهمات للعلماء العرب والصينيين القدماء ترك كثير من القصائد البالغة النضج والجمال وبعض أوزان الشعر العالية الدقة، إضافة إلى تركهم تراثاً غنياً في علوم الفلك والطب والملاحة والطباعة والزراعة والصناعة وغيرها. وبفضل الاهتمام بالعلم والتعليم نقل العرب قصائد القدماء جيلاً بعد جيل، والمعلقات السبعة من أجود الأدلة على ذلك، وقيل إن هذه القصائد السبع حصلت كلها على الجوائز في المسابقات التي أقيمت في سوق عكاظ. وبفضل الاهتمام بالعلم والتعليم نقل الصينيون كثيراً من القصائد والنثور في العصور القديمة جيلاً بعد جيل ولا سيما القصائد في أسرة تانغ فإنها معروفة لدى جميع الصينيين حتى يستطيع الأولاد الصغار أن يتلوا شيئا منها.
وبعد ظهور الإسلام أصبح طلب العلم من الفرائض الاسلامية الأساسية. فأول ما نزل من القرآن الكريم (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم )) وكان النبي محمد يشجع المسلمين على طلب العلم وقد قال لهم: اطلبوا العلم ولو في الصين. ويري أن الحكمة مثل الجمل الذي ضاع، اينما يجده المسلم فهو ملك له نفسه… لذا يكون طلب العلم سنة وواجبا بالنسبة الي المسلمين. فكانوا قد تعلموا أينما ذهبوا، وعلموا كل ما عرفوا واتخذوا المسجد مكاناً مهما للتعليم والتعلم اضافة الى انشاء المدارس. فلكل مسلم حق في الإستماع الى محاضرات العلماء، ولكل مسلم عالم واجب في أن يعلم المسلمين الآخرين ما عرفه. تماشياً مع نشر الاسلام ومع توسع الدولة الإسلامية استفاد العرب كثيراً من علوم الأمم المغلوبة المستعربة فان حركة الترجمة المشهورة التي استغرقت مائة سنة في تاريخ الثقافة العربية خير دليل علي اهتمام الأمة العربية بالعلم والتعليم والتعلم.
ومنذ قديم الزمان ظهر كثير من العلماء الصينيين يجتهدون في الدراسة ويحثون على طلب العلم ويسعون الى دفع تطور التربية والتعليم وكان كونفوتشيوس المفكر والسياسي والمعلم العظيم (551 ق.م —-479 ق.م ) واحدا من هؤلاء العلماء فهو أول من فتح كُتابا ودعا الى ” طلب العلم مهما كان نوعه ” و” عدم الملل في التعلم وعدم الكلل في التعليم ” فكان هو نفسه قد تعلم كثيراً من العلوم من المتخصصين الآخرين، مثلاً تعلم الفلسفة من الفيلسوف المشهور لو دان وتعلم الموسيقي والعزف من الموسيقيين المشهورين تشبانغ هون وتسي شيان وكان له ثلاثة آلاف تلميذ ومنهم سبعون ممتازا مشهورا في تاريخ الصين. كان المعلم العظيم ووه شون مثالا ًيهتم اهتماماً بالغاً بالتعليم ومن أجل انشاء المدارس يجمع النقود بكل الوسائل حتى يخرج نفسه للتسول ومن أجل تعميم التعليم قد أنشأ المدارس التي يمكن لأبناء الفقراء أن يدرسوا فيها مجاناً.
وهذا التقليد المجيد يتمثل بوضوح في الأمثال العربية والصينية. ومن حيث المعنى تنقسم هذه الأمثال الي ثلاثة أنواع : أمثال للحث على التعلم، وأمثال لإحترام الأساتذة وتمجيد العلم، وأمثال للإجتهاد في الدراسة.
الحث علي التعلم يعني التشجيع على طلب العلم. فيري العرب والصينيون ان طلب العلم أمر يجب ان يمارسه الانسان طول حياته، وان الجهل أشد من الفقر. والأمثال التي تعبر عن ذلك كثيرة، منها أمثال عربية تقول:
اطلبوا العلم من المهد الي اللحد.
مجلس علم خير من عبادة شهر.
الجهل شر الأصحاب.
جهلك أشد لك من فقرك.
علمان خير من علم.
ومنها أمثال صينية تقول:
أطلب العلم ما دمت حيا.
اقرأ تستفد.
العلوم ثروة.
لا تخجل من أنك لا تعلم بل اخجل من أنك لا تتعلم.
ليس عارا أن تطلب العلم ممن دونك.
ان احترام العلم والرغبة الصادقة في التعلم والاهتمام بالتعليم والتعلم هي أساس فكري لتبجيل المعلمين وطلب العلم. واحترام الأساتذة يعني احترام ذوي العلم والمعرفة مهما كانت سنهم ومكانتهم.
نعرف أن الأديب المصري الكبير طه حسين قد فقد بصره منذ صغره ولكنه كان مجتهدا ًفي الدراسة وحفظ القرآن الكريم وهو في التاسعة من عمره. فسماه الناس بالشيخ حتى أبيه وأمه. ان هذه التسمية تسمية احترام وفخر وهي اعتراف بعلمه وانعكاس عن مفهوم احترام الأساتذة وتمجيد العلم في الحياة الواقعية. وأن كونغ رونغ الأديب الصيني الكبير في أسرة هان دخل يوما وهو في العاشرة من عمره منزل لي يوان لي والي محافظة لويانغ الذي يحب اقامة المجلس العلمي في بيته ولا يدعو الى حضوره الا الأدباء والعلماء المشهورين وبعد أن قابل هذا الوالي كونغ رونغ وتحدث معه أعجب بذكائه وبسعة علمه فدعاه الى مجلسه وقدمه الى أصدقائه. وهناك قصة صينية أخري تحكي أن يانغ شى العالم الكبير في أسرة تسونغ ترك فرصة لتولي المنصب الكبير واستمر في طلب العلم وعندما بلغ أربعين من عمره تعلم من العالم المشهور تشونغ يي وفي يوم من أيام الشتاء ذهب مع زميله الي بيت الأستاذ تشونغ ليسأله سؤالا وعندما وصلا وجدا أن الأستاذ جالس وهو مغمض العينين فلا يريدان أن يزعجاه ووقفا عند الفناء بهدوء واحترام رغم أن الجو غائم والرياح شديدة والثلج بدأ ينزل وعندما استيقظ الأستاذ من راحته وجد أن الثلج قد بلغ سمكه قدما وما زال التلميذان واقفين في الفناء فاستنتج من هذه القصة المثيرة المثل القائل” الوقوف أمام باب الأستاذ تشونغ في الثلج الغزير”.
ومن الأمثال العربية التي تعبر عن احترام الأساتذة:
من علمني حرفا صرت له عبدا
العالم والمتعلم شريكان في الخير.
يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول.
لا شرف كالعلم.
ليس لسلطان العلم زوال.
ما الفخر الا لأهل العلم.
ومن الأمثال الصينية التي تعبر عن احترام الأساتذة:
من علمني يوما صرت له ابنا طول الحياة.
من صحح لي كلمة صرت له تلميذا.
العلم أنفع من المال.
ليس لقوة العلم زوال.
الشمس تنير العالم والعلم ينير الحياة.
والاجتهاد في الدراسة تنقسم الي ثلاثة معان: أولا يعني الجد، فالعلم الحقيقي لا يكون الا للمجد ثانيا يعني السؤال، فالانسان لا يستطيع تجديد علمه وتوسيع معارفه الا بالسؤال والاستفهام بكل صدق وتواضع، ثالثا يعني المذاكرة والتمرين، فالعلم لا يمكن أن يكون راسخا الا بالمذاكرة والتطبيق عليه. والعالم الكبير الجاحظ خير نموذج للاجتهاد في الدراسة في تاريخ الأمة العربية. فقد رغب في العلم وهو حدث، فأكب على الدرس وجّد في التحصيل، وخالط أهل العلم والأدب، فأخذ عنهم واستفاد منهم وأغرم بالمطالعة اغراما شديدا، وأصبح في الأدب منقطع القرين. كان السياسي الصيني المشهور في عصر الممالك المتحاربة سو تشينغ مجتهدا في الدراسة ويسهر كثيرا حتي وخز هو نفسه فخذه بابرة كبيرة حين قهره النعاس وكان تسونغ جين العالم الصيني الكبير مثالا آخر في الاجتهاد فكان دائما ما يدرس حتي الفجر وللتجنب من النعاس ربط شعره بحبل معلقا على العارضة. ان هذه الأمثال التي استنتجت من هذه القصص المثيرة ظلت تشجع الناس على الاجتهاد وطلب العلم.
والأمثال التالية هي من الأمثال العربية التي عبرت عن مفهوم العرب في الاجتهاد:
المعرفة لا يمكن نيلها الا بالعمل الشاق.
خير جليس في الزمان كتاب.
من جد وجد ومن زرع حصد.
من طلب العلى سهر الليالي.
اذا شاورت العاقل صار عقله لك.
اذا صدئ الرأي صقلته المشورة.
والأمثال التالية هي من الأمثال الصينية التي عبرت عن مفهوم الصينيين في الاجتهاد:
الكتاب المفيد كالدواء النافع لا يستغني عنه الانسان طول حياته.
الكد ثرى العبقري والجد مفتاح العلم.
من جد وجد وما يزرع يحصد.
الاجتهاد والعلم خليلان.
تنقص الأموال بالصرف ويزداد العلم باستخدامه.
كلما كثرت القراءة اتسع الصدر.
ان طلب العلم عنصر مهم لتطور المجتمع وخطوة لا بد منها للتهذيب الخلقي. وقد أخبرتنا الأمثال المذكورة بكل وضوح ان الأمتين العربية والصينية أمتان تهتمان بالعلم والتعليم والتعلم، أمتان عظيمتان تحترمان العلوم والعلماء.
حقوق النشر و الطبع محفوظة لصالح الباحث و يرخص بالنشر حصراً عبر موقع مجلة مناشير اللبنانية من قبل الباحث ومركز الشرق الأوسط للدراسات والتنمية