الحرب الأميركيّة التأديبيّة – أحمد جابر
كتب احمد جابر في المدن
ليست حرباً على غزّة والضفة الغربية فقط، وليست حرباً إسرائيلية صافية، بل هي حرب أميركية تنتظم ضمنها القوة الإسرائيلية كإحدى أدواتها العدوانية الأعلى فتكاً وتدميراً.
حرب الشراكة التي شارفت على انقضاء عامها الأول، ذريعتها فلسطينية، لكنَّ تلقف شرارتها التفجيرية كان فعلاً “ماضياً” لجهة أهدافه المضمرة، ولجهة خططه البدئية الجاهزة. تسمية اللاعبين بأسمائهم، نصف الطريق إلى تنحيَة التسميات الإعلامية الرائجة، والنصف المتمم للطريق، لجهة تصويب بعض الأفكار والآراء التي واكبت النار الفلسطينية لحظة اشتعالها، وما زالت على مواكبتها للنار التي لا دليل حتى تاريخه، على لحظة انطفائها.
تصحيحاً، الولايات المتحدة الأميركية ليست شريكاً في وساطة، بل هي فاعل أساسي يدور بتهديداته على دول المنطقة العربية، وعلى دول الإقليم، وعلى شركائه في الغرب الأوروبي وغير الأوروبي.
تصحيحاً أيضاً، يقع في باب المزاح السياسي المتهافت، ترداد القول عن “تمرّد” رئيس الوزراء الإسرائيلي على الإدارة الأميركية، مثلما يقع في باب “اللاجديّة” السياسية، القول إن الحكومة اليمنية المتطرفة في إسرائيل، تعمل على توسيع مسرح الحرب، لكي تورّط الولايات المتحدة الأميركية، وتدفعها إلى المشاركة في خوض غِمار القتال إلى جانبها.
وعلى سبيل الوضوح الإضافي، من حشو القول، إعادة التذكير بأن خطة الهيمنة الاستعمارية الأصلية، تحمل الجنسية الأميركية، وأنه حول هذه الخطة تتحلّق أدوات لكل منها مرتبة سياسية، ودور محوري، ونصيب من العائدات. هي تراتبية تنفيذيين، يتقدمهم المنفّذ الإسرائيلي الذي أنشأه المستعمرون كحارس أول، ويليه عدد من المنفذين، العرب وغير العرب، الذين ارتضوا إخضاع مواردهم وقراراتهم للهيمنة الأميركية وشركائها، في مقابل بدل معلوم، سياسي ومادي وأمني، يضمن استمرار “الأنظمة”، ويضمن استمرار ضخّ نسغ الحياة في أوصالها… ودائماً، من حساب ثرواتها الخاصة، التي يعود أمر “حراستها” إليها.
تظهير الصورة بالأسود والأبيض، ضروري في غمرة التضليل الواسع الذي تمارسه السياسة الأميركية، وضروري في سياق نقاش تطورات المعركة، والتوقف أمام ما بدا واضحاً من خلاصاتها، هذا ليكون ممكناً الجواب عن سؤال: ماذا عن الآن؟ والجواب عن سؤال: وماذا عن اليوم الذي يلي وقف العدوان؟ الحديث عن الآن، عنوانه: إنها حرب تأديبية أميركية عامّة. الذين جرى تأديبهم حتى الآن، الجمهورية الإسلامية في إيران، والدول العربية على اختلاف مسافاتها الجغرافية من فلسطين، وتركيا، التي حاولت تميّزاً في السياسة وفي “الإيديولوجيا”.
أساليب التأديب الأميركية، كانت متناسبة مع واقع كل بلد بمفرده. مع إيران مثلاً، اعتمدت السياسة الأميركية التهديد بالقوة، كبديل من استعمالها. كان الحشد البحري والجويّ، وحتى البرّي، في بعض القواعد العسكرية المجاورة، كفيلاً بكبح “التهويل” الإيراني بالرد على اغتيال إسماعيل هنية في ديارها. مع مصر، لم ينبثق “التهديد الأثيوبي” من فراغ سدّ النهضة، ولا من ملئه. مع سوريا، تواصل التهديد بمنع تثمير التواصل معها، ومنع الانفتاح عليها، ومنع مدّ يد المساعدة لإنقاذها من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… أما مع لبنان، فما نقل عن هوكشتاين من تهديدات بالهراوة الإسرائيلية، كان كافياً ليؤكد جديّة التهديد الأميركي البريطاني بالمشاركة في قصف لبنان، إن تجاوز “حزب الله” بعض النقاط الخطرة، في ردّه على اغتيال القيادي فؤاد شكر.
الصورة التأديبية الفاقعة، وجهها البشع الثاني، أفعال الدولة العبرية التي تجاوزت كل معايير “الغرب” الإنسانية، وكل سطور البيانات الأميركية “الأخلاقية”. في إطار الصورة، قتيل فلسطيني وقاتل إسرائيلي. القتيل الفلسطيني “إرهابي” موصوف. القاتل الإسرائيلي “حضاري” معروف. في حومة الاشتباك يفعل الملاكم الإسرائيلي ما يريد، ويمنع على المجتمعين حول الحومة التدخل لفك الاشتباك غير المتكافئ.
تنسحب ظلال الصورة المحليّة من محليتها إلى “دوليتها”، فيغيب مجلس الأمن، ويغيب “الضمير العالمي”، وتقفل الأبواب دون إمكانية محاسبة القاتل… هذا في الوقت الذي تفتح فيه كل مستودعات آلات القتل ووسائطه، أمام آلة العدوان المرعيّة الأقوال والأفعال.
في الحديث عن الآن عربيّاً، يجب القول إن استدراك واقع الحال مهمّة عاجلة، حتى يكون ممكناً لاحقاً، الحديث عن اليوم التالي العربي، ذلك أنه من دون هذا الاستدراك، قد لا يجد مجموع “العرب” ما يستدركه.
التحذير الذاتي هذا، يجد أسانيده في تطورات الحرب الإسرائيلية التي أعلن قادتها عن استكمال أهدافها حتى النصر الواضح فيها. الأهداف كما ارتسمت معالمها حتى الآن، تصفية القضية الفلسطينية، بالقتل وبالتهجير وبتصعيب سبل العيش، تمهيداً لقرار نهائي يعلن بعيد الحرب، لا يتجاوز في مضمونه عبارة “لقد قُضيَ الأمر” بالقضاء على مسمّى فلسطين.
استهداف فلسطين بالاحتلال، من غزّة إلى الضفة، تتمته استهداف المحيط الجغرافي لفلسطين، بالأعمال العسكرية الجوية والبرية، وتقطيع طرق التواصل بين دوله، بالسياسة وبالميدان. تظهيراً للصورة، أو تقريباً لها، تستحضر الخطة الإسرائيلية، المدعومة أميركيّاً، مسألة أمن الدولة العبرية. هذا الأمن يستوجب القضاء على مصادر التهديد العسكرية، أي تشكيلات المقاومة أولاً، والسيطرة على مناطق عازلة حدودية، تمتد على طول الحدود اللبنانية والسورية مع فلسطين، ومتابعة قصف وتدمير البنى التحتية العسكرية الداعمة لتشكيلات المقاومة، في سوريا وفي العراق وفي إيران عند الضرورة القصوى.
المحيط المعادي المباشر للدولة الإسرائيلية مرسوم بدقَّة، وحتى تاريخه لا خطر يأتي من جهة الأردن أو مصر، البلدين المرتبطين بمعاهدتين معلومتين مع إسرائيل، لهما أحكامهما المضبوطتين على إيقاع الدولتين المذكورتين، هذا من دون إغفال التنصل الإسرائيلي من هذه الأحكام، عندما يتطلب الأمن ذلك.
إذا كانت الخطة المعادية على هذا القدر من الوضوح، يصبح سؤال ماذا عن اليوم التالي سؤال الراهن العربي، الذي يلعب في صناعة المستقبل، دوراً مقرّراً.
اليوم التالي العربي، يقتضي المبادرة إلى لملمة اشتات العربي اليوم، هذا لمنع انحدار الحالة الواقعية العربية إلى ما هو أسوأ من الانحدار الحالي. في السياق، وبعيداً من القراءات والسياسات التي تجاوزتها التطورات، يجب طرح موضوع العرب وسوريا، والعرب ولبنان، والعرب وسائر خلافاتهم البينيّة، التي تتطلب تجاوز الفروع إلى الأصول، التي باتت ملامسة للمسائل الوجودية.
تحديد الخطوة السياسية الضرورية الأولى، تبدأ من نقطة أهداف العدو الإسرائيلي الأولى، فإذا كان هذا الأخير يضع الجبهة الشمالية اللبنانية والسورية هدفاً أول لعدوانه، وجب أن يركّز الجهد العربي على إفشال العدو على هذه الجبهة، بالانفتاح على مأزقي لبنان وسوريا، انفتاحاً ماديّاً وسياسيّاً، بما يتناسب وحجم الخطر “الكياني” الداهم، وإذا كان المطلوب إضعاف وتطويق مصر، أو النيل من الأردن، يجب الإسراع في تنفيذ سياسات أمن واستقرار تدعم هذين البلدين، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية…
هذا عربيّاً، أما مع الجوار، فليس أقلّ من دعوة إيران إلى سياسة حسن جوار شاملة، دعوة توجهها أيضاً إيران إلى نفسها، وليس أقل، من سياسة انفتاح اقتصادي وسياسي على تركيا، المستهدفة هي أيضاً في نفوذها. هي سياسة اجتماع المتضررين؟ نعم. وهي سياسة من يخالفون العدو في أهدافه؟ نعم. هل يستدعي ذلك من كل متضرر سياسة تضبط ساعة مصالحه الخاصة على ساعات مصالح شركائه؟ نعم وهو الأصوب. ما ترجمة كل ذلك لبنانياً وسوريّاً وخليجيّاً وإيرانيّاً وتركياً؟ ليس أقل من تعميق البحث وتجديد العمل في قضايا اليوم الراهن، وفي قضايا اليوم التالي لمواجهة الداهم من الأخطار.