جولة ترامب مكاسب اميركا الاقتصادية ومخاطر المنطقة الكيانية
كتب زكـي طـه في بيروت الحرية
تميزت الفترة التي اعقبت فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الاميركية، واستلامه السلطة، بكثرة الطروحات والتطورات غير المتوقعة وغير الواقعية، بالنظر لطبيعتها المفاجئة، وقد أشَّرت إلى تبدّل قيم النظام السياسي العالمي، في ظل رفع شعار “أميركا أولاً”، وإعلان حق الولايات المتحدة بضم كنداً وغرينلاند. وكان البارز اعتماد سياسات حمائية من طرف واحد، تمثلت بحرب الحماية الاقتصادية، ضد جميع دول العالم، وتوقيع مرسوم جدول الرسوم الجمركية الذي يجعل من اميركا شرطي جباية دولي مطلق اليدين.
لم تتأخر ردود الفعل، ما أدى إلى اضطراب الاسواق المالية، وهبوط مؤشر الدولار وارتفاع اسعار الذهب، وتزايد احتمالات الركود الاقتصادي العالمي. وتسارعت النتائج السلبية على الاقتصاد الاميركي نفسه خلال الاسابيع الاولى. وبدء الرئيس الاميركي البحث عن مخارج تسويات واتفاقات جديدة لمعالجة الأزمة. في هذا السياق أتت جولته الخارجية الاولى، التي شملت كلا من السعودية وقطر والامارات. كان الهدف تأكيد عودة اميركا بقوة إلى المنطقة من بوابة المصالح الاقتصادية المشتركة، القائمة على الشراكة والتكامل الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وفي مواجهة التحديات الاقليمية والدولية، بالاستناد إلى رؤية تستهدف هزيمة التطرف من خلال التبادلات التجارية والثقافية.
تعمّد ترامب الامساك بزمام المبادرة على رافعة نتائج الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية، وإعادة النظر بالتحالفات القائمة في المنطقة. لم يدرج زيارة اسرائيل ضمن جولته، لكنه استبقها بعدد من المواقف والتصريحات المثيرة للدهشة والاستغراب. وشكل نفيها والعودة عنها طعناً بجديتها وبالغاية منها. خاصة وأن اسرائيل سارعت لاستغلالها والتهويل من خطورتها على أمنها ووجودها. وعليه اختفت إشاعة اعتراف ترامب بالدولة الفلسطينية، وتبدل الحديث عن تنازلات لإيران بشان تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية. ولم يطلب ترامب من اسرائيل وقف الحرب على أي من الجبهات، رغم الاتفاق الاميركي المنفرد مع الحوثيين بمعزل عنها، واستمرار الاتصالات مع حماس لتسليم الاسرى.
أولوية الاتفاقات الاقتصادية
كانت الاتفاقات الاقتصادية مع دول الخليج، إحدى أولويات جولة ترامب. هذا ما أكدته إجراءات وزارة الخزانة التي سبقتها. وغايتها تسهيل قواعد اجتذاب الاستثمارات الكبيرة، والتأشير إلى وجهة تموضع الاستثمارات الرأسمالية الاميركية في المنطقة، بالتوازي مع مساعي محاصرة النشاط الاقتصادي الصيني فيها، وقطع الطريق على أي دور سياسي لها، وإنهاء ما تبقى من دور سياسي وتواجد عسكري روسي خصوصا في سوريا.
نتائج الزيارة على الصعيد الاقتصادي هي الأهم منذ عقود، نظراً لطبيعة الاتفاقيات التاريخية التي وقعت مع كل من السعودية وقطر والامارات. وقد فاقت قيمتها الاجمالية أكثر من 3,2 تريليون دولار. وشملت قطاعات الدفاع والطيران والتكنولوجيا والطاقة والذكاء الاصطناعي. ومعها تعهد قادة تلك الدول بضخ مئات مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد الاميركي خلال الاعوام القادمة.
بالتوازي، تميزت الجولة بنجاح الرئيس الاميركي في توظيف نتائج الزلزال الجيوسياسي في المنطقة، الذي نتج عن الحرب المستمرة والمفتوحة على اكثر من صعيد. وفي السياق كانت القرارات التي تؤشر إلى ملامح النظام الإقليمي الجديد، ومعادلات التحالفات الاستراتيجية، وفق تعريف جديد يتعلق بمن يملك أدوات النفوذ والتأثير في مسرح الشرق الاوسط. وكان البارز على هذا الصعيد توسيع أفق التحالف الاستراتيجي السعودي-الأميركي أخذاً بنظر الاعتبار دور دولتي الامارات وقطر. حدث ذلك بالتزامن مع تثبيت التنسيق مع تركيا، بعد منحها دور إقليمي مركزي يستند إلى عضويتها في حلف الناتو. وفي السياق استجاب الرئيس الاميركي لطلب الدول الاربع، برفع العقوبات عن سوريا ونظامها الجديد، ليصبحا من نقاط الارتكاز في هيكل النظام الجديد في المنطقة الذي يتخطى سياسة المحاور السابقة، وغايته بناء شرق أوسط جديد، تحتل فيه اسرائيل دور الحليف التقليدي الاول لاميركا.
التحولات الاستراتيجية الكبرى
وبصرف النظر عن شكليات الاعلان، فإن قرار رفع العقوبات عن سوريا حدث في اطار إخضاع المنطقة لسيطرة الولايات المتحدة، وفي سياق تحولات استراتيجية كبرى، مكنتها من محاصرة ايران، التي تبلّغ قادتها الكثير من رسائل الترهيب والترغيب، وطلبات التخلي عن طموحاتها السياسية، وتقديم المزيد من التنازلات بشأن ملفها النووي، ووقف دعم التنظيمات التابعة لها على النحو الذي يؤدي إلى توقيع الاتفاق معها وفق الشروط الاميركية.
ولذلك سارع ترامب وبحضور ولي العهد السعودي ومشاركة الرئيس التركي إلى لقاء رئيس سوريا التي باتت شريكاً في المعادلة الإقليمية، للتأكد من التزامه دفتر الشروط الذي يعكس تفوق المصالح الاميركية فيها. سواء تعلق الامر بمعالجة المسالة الكردية والاشكاليات الطائفية، أو لناحية محاربة الارهاب وفق التوصيف الاميركي. والأهم إعادة النظر بالعلاقة مع دول الجوار خاصةً لبنان واسرائيل. وعليه، بدأت مفاوضات التطبيع مع اسرئيل بين وفدي البلدين في أذربيجان.
ولتأكيد السيطرة الاميركية، لم يتجاهل الرئيس ترامب فرصة توزيع شهادات الجدارة والكفاء على القادة الذين أظهروا استعداداً لا مثيل له في الاستجابة لطلباته، وفي تبني توجهاته حول مختلف قضايا وأوضاع بلدان المنطقة ومشكلاتها. سواء تعلق الامر بالوضع السوري، أو بالوساطة مع ايران، أو بتسهيل وضع قطاع غزة بعهدة الادارة الاميركية، بعد تحرير الاسرى الاسرائيليين، وتسليم سلاح حماس ومغادرة قادتها.
وفي امتداد ذلك، كان تفويض السعودية بالتنسيق مع قطر والامارات، متابعة ملفات الوضع اللبناني، للضغط من أجل الاسراع في إقرار الاصلاحات الداخلية، وفي تنفيذ بنود الاتفاق مع اسرائيل، وتحديداً ما يتعلق منها بسلاح حزب الله وفق الشروط المتفق عليها، والتي لم يفتأ يكررها سائر المسؤولين الاميركيين والاسرائيليين. ولذلك تعمّد الرئيس ترامب مراراً، تذكير المسؤولين اللبنانيين، بضرورة تنفيذ ما تعهدوا به، ومطالبتهم بعدم المماطلة والتأخير، وحذرهم من خطرضياع فرصة انقاذ لبنان والعودة إلى طريق التعثر والضياع. ولم تفته الإشارة الى إمكانية إعادة النظر بدعم اميركا للبنان وتحميل حزب الله مسؤولية تجدد الحرب الاسرائيلية ضده، خلافاً لما ستذهب إليه الاوضاع في سوريا، بكل ما ينطوي عليه الامر من خيارات.
كرست الاتفاقات التي وقعها قادة دول الخليج سيطرة الولايات المتحدة على المنطقة إلى أمد طويل. غير أن مصير بلدانها، دولاً وكيانات ومجتمعات بقي في حكم المجهول. أكد ذلك البيان الصادر عن القمة العربية، عندما كرر تعداد القضايا والمشكلات والأزمات التي لا تزال تعصف بأوضاع بلدانها بما فيها لبنان. وهي التي تشكل تحديات تنتظر من يتنكب حمل مسؤولية البحث عن السبل الآيلة إلى معالجتها، بديلاً عن الاكتفاء بالامنيات والرغبات وترداد الشعارات العامة. أما انتظار الحلول عبر زيارات موفدي الخارج، فهو أقصر الطرق لضمان مصالحه، وتسهيل الرضوخ والاستسلام لمشيئته.