تخيّلوا رأس العين بلا مياه… تخيّلوا بعلبك بلا قلعة!
لم تعد تعكس شيئاً، لا وجوه ولا سماء. بقيت فقط الحجارة اليابسة، والفراغ الكبير. ‘جفاف البياضة ليس جفاف مياه فحسب، بل جفاف روح’،
كتبت لينا اسماعيل في النهار
في قلب مدينة بعلبك، حيث تنبض الحياة من رحم التاريخ، كانت بركة البياضة في محلة رأس العين أكثر من مجرد تجمع لمجرى مياه. كانت موعداً يومياً مع الروح، ومرآة تُعانق صباحات الناس ووجوه الأطفال، وتحتضن ضحكات العابرين وصوت القهوة وعبيرها العابق قرب ضفتها.
كان المشي على أطراف البركة طقساً بعلبكياً بلدياً، وكانت أصوات البط فيها جزءاً من ذاكرة المدينة. الأطفال يرمون فتات الخبز، والبط يهرع نحوه في سباق بريء، والآباء يلتقطون الصور ويبتسمون. أما العشاق، فكانوا يتبادلون همساتهم على وقع خرير المياه، كما لو أن كل شيء في هذه البركة حيّ ويهمس لهم.
اليوم، توقف الزمن ومات كل شيء. البركة جفّت. لم تعد تعكس شيئاً، لا وجوه ولا سماء. بقيت فقط الحجارة اليابسة، والفراغ الكبير. ‘جفاف البياضة ليس جفاف مياه فحسب، بل جفاف روح’، هكذا عبّر ابن المدينة صالح وهبي عن مشاعره العميقة وهو يصف الحال التي آلت اليها .
ويسترجع ذكريات العدوان الأخير على لبنان، عندما كان يواجه خطر الغارات التي كانت تطبق على المدينة بلا رحمة، ويخرج يومياً لاطعام البط داخل البحيرة، متحدياً كل المخاطر.
قلة المتساقطات، عشرات الآبار العشوائية التي استنزفت المياه الجوفية، والإهمال المزمن… كل ذلك اجتمع ليخنق هذا النبع. لا صوت للبط، ولا قهوة تُشرب على مهل، ولا أطفال يركضون. تخيّلوا رأس العين بلا مياه… تخيّلوا بعلبك بلا نبض… بلا قلعة!
لكن رغم الحزن، لا يزال هناك بصيص أمل. فقد أثبتت تجربة سابقة أن توقيف تشغيل أحد الآبار أعاد المياه مؤقتاً. الأمل لا يزال يتدفّق، ولو من بعيد… علّه يعود يوماً، فتعود البياضة كما كانت: ضوءاً في ذاكرة المدينة، ونقطة لقاء للحياة.
وسط هذا المشهد الحزين، تحركت قلوب الناس قبل أقدامهم. هرع الأهالي والأطفال إلى البركة الجافة، لا لينظروا بأسى، بل ليفعلوا ما يستطيعونه. فقد غادر البط والأوز موطنهم بحثاً عن ماء جديد، لكن الأسماك بقيت، تختنق في ما تبقى من برك صغيرة ضحلة.
بأيديهم العارية، وبدلاء الماء، حاول الأهالي، كباراً وصغاراً، إنقاذ ما يمكن إنقاذه. مشهد الأطفال وهم يسابقون الزمن لالتقاط سمكة تتلوى على الطين، كان مؤلماً وجميلاً في آن. لم تكن مجرّد محاولة للإنقاذ، بل كانت إعلان حب ووفاء لمكان لطالما منحهم الفرح، وردّ للجميل بطريقتهم البسيطة.
تلك اللحظة، وسط الجفاف، كانت بركةً من الإنسانية.