سيدات يطبخن لعائلات زحلة: الاستغناء عن المطاعم والعاملات الأجنبيات
مناشير
حياة موسى ونايلة أبو بشارة الأكثر شهرة في زحلة (المدن)
يلفت في منطقة زحلة وضواحيها مؤخراً، نشاط سيدات قررن أن يستثمرن في ملكتهن بعالم الطبخ. فراجت فكرة الطبق اليومي، أو حتى طبخة اليوم، التي تحاول السيدات من خلالهما فتح طاقة اقتصادية بظل الأزمة الضاغطة على اللبنانيين عموما. فتسد في الوقت نفسه حاجة طارئة في معظم المنازل، بعد أن فقدت ربات البيوت مساعدات التنظيف والتدبير المنزلي. وهكذا تساهمن في نجاة الكثيرات من ضغط متطلبات تأمين الوجبات العائلية، والتي تتطبع المجتمعات الشرقية عادة على كونها من وظائف السيدات حصراً، حتى ولو كان لتلك السيدات وظائفهن التي تشكل بدورها سنداً مادياً لعائلاتهن.
وهكذا تسللت إلى هواتف ربات البيوت العاملات خصوصاً، أرقام هواتف قرينات لهن مستعدات لتأمين الوجبة اليومية الساخنة. فارتحن من “همّ” الطبخ، وارتاحت عائلاتهن من الطعام البائت أو الـfast food غير الصحي. بعد أن أمّن تعدد العناوين فرصة للمفاضلة بين أكثر من مصدر، حتى يتناولوا كل يوم طبقاً جديداً، ووفق ذوقهم تماماً في بعض الأحيان.
خسارة العاملات الاجنبيات
ليست فكرة الطبق اليومي المعد للبيع جديدة في المجتمعات اللبنانية. إلا أن رواجها في المجتمعات الريفية، وخصوصاً في مدن الأطراف التي لا يعاني فيها الناس عادة مشقة الانتقال، بقي محدوداً لسنوات طويلة.
في زحلة مثلاً تأسست قبل الأزمة اللبنانية العديد من المطاعم الصغيرة التي يقدم بعضها الطبق اليومي داخل المطعم، فيما حصر بعضها الآخر نشاطه ببيعه للخارج فقط (خدمة الديليفري فقط). في هذه الفترة بقي زبائن هذا الطبق إما من الشابات والشبان العُذّاب الذين يعيشون بعيداً عن ذويهم، أو كبار السن الذين ليس لديهم من يؤمن لهم الغذاء يومياً.
ما تبدل منذ بدء الأزمة اللبنانية، أن الكثير من السيدات العاملات فقدن عنصراً بارزاً مساعداً في المنازل، بعد أن خسرت رواتبهن قيمتها، التي لم تعد تكفي لسد رواتب العاملات الأجنبيات. فتعرفت الكثيرات إلى المطبخ لأول مرة. واكتشفن أن الأصعب من إعداد الطبخة هو إزالة ما يترتب عنها من جلي وتنظيف، لم يكونا من مهماتهن سابقاً. وبالطبع لن تكون المسألة سهلة لإمرأة عاملة، عليها عادة الالتحاق بوظيفتها باكراً، لتعود في ساعات متقدمة من بعد الظهر.
وجدت تلك السيدات ضالتهن خارج مطابخهن. ومع أن بعض العناوين التي اهتدين إليها ليست جديدة، تعرفن إليها من خلال تردد الصديقات والجارات عليهن. وفتشن من بينها عن الأقرب جغرافياً، الأنظف، والأهم الأطيب والأرخص. وبسرعة قياسية صارت تلك العناوين طاقة فرجهن الجديدة، ومن دون أن تكبدن ميزانية منازلهن عبء التحول إلى الطعام الجاهز يومياً.
السيدة حياة.. طباخة الدير
انطلقت السيدات اللواتي امتهن الطبخ في المقابل، من خلفيات مختلفة وتجارب ترتبط بحاجة السيدات اللواتي صرن زبائن دائمة لديهن.
من بين تلك السيدات تعرفنا إلى سيدة مخضرمة في المهنة، وسيدة بدأت نشاطها منذ أشهر قليلة، فكانت هذه قصة كل منهما.
الست حياة موسى هي من السيدات السباقات في تأمين الطبخات الجاهزة لزبائنها. تعود خبرة السيدة السبعينية بمهنة الطبخ إلى أكثر من 24 سنة. إلا أن مهمتها في السنوات 15 الأولى منها كانت محصورة بإعداد الطعام لكهنة دير مار أنطونيوس بزحلة. في مرحلة الرخاء الاقتصادي تلك، كانت المناسبات كثيرة، وكان الكهنة يستقبلون الضيوف بشكل متواصل كما تقول. ولذلك اعتادت الست حياة أن تعد أكثر من طبخة في اليوم، ولم يكن أحد يساعدها ولو في تقشير حبة ثوم أو فرم بصلة.
عندما نسألها عن أنواع الأكل التي تعدها. تؤكد أن ليس هناك طبخة مستحيلة عليها. وتشرح كيف استنبطت أفكاراً إضافية في الأطباق من الكهنة أنفسهم. ومن بينها طبخة أطلق عليها رئيس الدير الذي كانت تطبخ له تسمية “ينغ يونغ” والذي يشبه حاليا ستروغونوف الدجاج، وما زالت تعرض فكرتها على زبائنها بتسميتها المخترعة ويشتهونها.
بعد 15 سنة من العمل في الدير، وجدت حياة نفسها قبل تسع سنوات، مضطرة لمغادرة عملها. إلا انها لم تتوقف عن الطبخ الذي تصف أنه يسير بدمها. بل كانت بعض السيدات قد تعرفن إلى طبخها في هذه الفترة، وصرن يطلبن منها إعداد الأطباق التي يستغرق إعدادها وقتاً، كلفّ ورق العنب والملفوف، او إعداد المعجنات وغيرها. مع الوقت كبرت عائلات تلك السيدات وصار لكل منهم بيت، وكثرت مناسباتهم، وصاروا يقصدون الست حياة في تأمين متطلبات مآدبهم. وهكذا تضاعف عدد زبائنها الدائمين، إلى حد تطلب منها توسيع مطبخها، واقتناء مزيد من الطناجر والأدوات المطبخية، التي اقتنت منها كما تقول ست مجموعات. وكان هذا أفضل ما فعلته قبل بدء الأزمة اللبنانية التي ضاعفت بدورها أعداد زبائنها، وصارت طناجرها تتنقل يومياً على منازلهم حاملة ما يشتهيه كل منهم.
عبر الواتساب
نسألها، أليس إعداد طبق يومي واحد أسهل لها، فلا تحبذ الفكرة. تقول “أنا أطبخ لزبائني على ذوقهم ومش على ذوقي”. وبذلك كما تؤكد تشعر وكأنها كوالدة يهمها أن يتناول أولادها ما يشتهونه.
وهكذا سارت وتيرة حياتها على طلبات زبائنها التي تبدأ بالتقاطر يومياً منذ المساء عبر تطبيق الواتساب. تطلع على الطلبات بينما ترتشف قهوتها صباحاً، وتعد لائحة بالمكونات التي ستحتاجها. ومن ثم تنطلق إلى السوق لابتياعها جميعها، يساعدها في ذلك أحياناً ابنها، وتستعين أحياناً بإحدى ابنتيها التي تقول إنها أشطر منها بالمعجنات.
في المطبخ تنجز أولاً طبخة عائلتها، خصوصاً أن زوجها الذي خسر عمله منذ 12 سنة معتاد على تناول الغذاء باكراً. ومن ثم تنصرف إلى مهمتها. تتفاوت أعداد الطبخات التي تعدها يومياً، ولكنها تصبح كثيرة في نهاية الأسبوع خصوصاً، عندما تبدأ بإعداد طبخات أسبوع كامل، لعائلات ترسل أطباقاً منها مع اولادها الذين يدرسون في جامعات بيروت.
تقول الست حياة إنه أياً كان عدد الطبخات، فهي جميعها تكون جاهزة لأخذها في الوقت المناسب. ومن هنا تشرح قدرتها على تنظيم وقتها، حيث تبدأ بتحضير بعض الطبخات التي تحتاج وقتاً في الليلة السابقة، وتترك الأمور السهلة لليوم الثاني، مؤكدة أن أي طبخة لا تستغرقها في المطبخ أكثر من نصف ساعة. ولكن كون كل الزبائن سيأخذون طبخاتهم ظهراً، فهي مضطرة لتشغيل ست رؤوس للغاز مع الفرن في الوقت نفسه.
تعتبر حياة الطبخَ تسليتها، ومع أنها حرمتها من الحياة الاجتماعية، لا تشعر بالفراغ، إلا متى وجدت هاتفها خال من رسائل الواتساب. عندها تضيع ولا تعرف ماذا تفعل بيومها.
نسألها عن طريقة احتساب كلفتها وأرباحها. تقول إنها تضيف إلى أسعار المكونات مبلغ 50 ألف ليرة وعلى الدنيا السلام. مبلغ يبدو ضئيلاً خصوصاً أنه يتضمن كلفة الغاز الذي يستخدم في عملية الطبخ، ولا يحتسب بعض الإضافات كالملح والبهارات وأنواع الزيوت التي تحتاجها الطبخة أحياناً. إلا أن الست حياة ترفض أن تشغل بالها بالعمليات الحسابية. تقول “أنا أعمل على البركة والله يبارك”. شارحة أن بعض الزبائن يتركون مبلغاً أكبر مما تطلبه، وبعضهم الآخر يعبر عن تقديره من خلال مكافأتها بما يفوق كلفة الطبخة أحياناً، وهذا يعوض ذاك. المهم بالنسبة لها أن عملها يكفي احتياجاتها المنزلية، وهي ليست مدينة لأحد كما تقول. ليتحدث زوجها في المقابل عن فرحتها بالقلوب والقبلات التي تنهال عليها عبرر واتساب كلما استحسنت الطبخة من عائلات السيدات اللواتي تلجأن لخدماتها.
السيدة نايلة.. طموح قديم
نايلة أبو بشارة لم تنتقل إلى عالم المطبخ سوى قبل أشهر قليلة. ومع أن مهنتها الجديدة وليدة الأزمة التي جعلت كلفة الانتقال إلى الوظيفة تفوق الراتب بحد ذاته، فهي تنطلق من خلفيات شغفها بالمطبخ، الذي جعلها تبدأ بالطبخ منذ كانت في سنها الثاني عشر كما تقول.
حلم نايلة طوال عمرها أن تتملك مطعماً يقدم الطبق اليومي. وهي لا تزال مصرة على تحقيق هذا الحلم، واختارت المكان المناسب له، ولكن تنتظر أيضاً الظرف المناسب. والى أن يتحقق ذلك فهي انطلقت حاليا بفكرة nayla’s kitchen العصرية.
ليست “نايلة” إسماً مجهولاً في زحلة. للسيدة حضور في العالم الافتراضي والحقيقي. وهي تؤكد أن العمل في الطبخ لا يجعلها تفوت أي مناسبة اجتماعية أو لحظة فرح. بل تحب الناس والتواصل معهم، وربما يكون هذا دافعاً إضافياً لرغبتها بأن يكون لها مطعمها الخاص في المستقبل. أما اليوم فلشبكة علاقاتها دور أيضاً في بلوغها سريعاً مجموعة من السيدات اللواتي صرن زبائنها فوراً.
تعد نايلة الطبق اليومي. وتقوم بنشر أطباق كل أسبوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع أسعارها. وتبدأ بتلقي طلبات كل طبق في اليوم السابق، لتحدد حاجتها لكميات المكونات ولتحديد حجم الطبخة التي عليها إعدادها. مطبخها الصغير في المنزل لا يسمح لها بتلقي عدد كبير من الطلبات، ولكنها تقول أنها راضية حتى الآن عن حجم العمل.
تحاول نايلة إلى جانب تنويعها في أطباقها والدخول في شتى أنواع المطابخ العربية والأجنبية، أن تتميز أيضاً بنوعية المكونات التي تضعها في طبختها، والتي تريد أن تترك فيها لمسة خصوصية تعرف عن طبقها. ولذلك هي حريصة على أن يكون لأطباقها ما يعرف عنها، عبر “لوغو” خاص تعتمده في وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن أيضاً في لصق الكيس، الذي تملأ فيه الأطباق الصالحة للاستخدام في الميكروويف. كل هذه الأمور إلى جانب طعم الأكل الذي تحرص على أن تستمع إلى رأي زبائنها حوله، تجعل كلفتها أكبر، ولكنها كما تقول تميز الخدمة التي تقدمها بقيمة مضافة، وتخلق لها إسماً في السوق.
بسعر سندويش
اقتصادياً، تؤكد نايلة أن العمل في الأكل مربح. ولكن هذا ليس كل ما تهتم له حالياً، وإنما أيضاً التأسيس لاستثمار أكبر في المستقبل. ولأنها أم لطفلين حصلت على كامل وصايتهما، فهي تحرص إلى جانب توفير نفقات احتياجاتهما، على منحهما أيضاً كل الوقت للرعاية. ومن هنا تقول إن عملها الجديد أراحها، لأنه أمن لها وقتاً أكبر لتمضيته معهما.
في المقابل تنفي نايلة أن يكون الطبق اليومي مكلفاً بالنسبة لعائلة كبيرة. مشيرة إلى أن سعر الطبق اليومي عادة لا يتجاوز سعر السندويش الجاهز. بينما الأول صحي أكثر، ويشبع الزبون ويغذيه بشكل أفضل. لافتة إلى أن غلاء أسعار المواد الغذائية المطلوبة من لحوم وخضار، بالإضافة إلى الطاقة المطلوبة في تجهيز الطعام، يجعل كلفة إعدادها في المنزل موازية تماماً لكلفة إحضارها جاهزة، ومن دون تعب بالنسبة للسيدات العاملات.
تقدر نايلة السيدات العاملات مثلها، وتتفهم صعوبة أن تكون المرأة عاملة بوظيفة، ومضطرة في الوقت نفسه لتأمين احتياجات عائلتها. ومن هنا هي ترى مستقبلاً مشرقاً للخدمة التي اختارت تقديمها، ما يجعلها مقتنعة بأن حلمها بامتلاك مطعم يعد الأطباق الجاهزة مستقبلاً ليس مستحيلاً.
لوسي بارسخيان