“تعليق” عمل التسويات.. ماذا بعد ؟
أسامة القادري – مناشير
في ٢٤ كانون الثاني مسك زعيم تيار المستقبل الرئيس سعد الحريري بعصا قرار “تعليق العمل” السياسي من طرفها بعدما أرهقه وسطها، ورمى بها في أرض محترقة متفحمة علّه يعيد فيها الحياة، ومن ثما قرّع بها أبواب القيادات والزعمات السياسية اللبنانية من مختلف الأطياف، ظناً منه أنه ربما يكون لهذا القرع صدى يَفلح بإحداث ما لم تفعله ثورة ١٧ تشرين، مفضلاً استلحاق مراجعته ونقده الذاتي على الاستمرار بذات النهج القديم، معلناً التوقف عن ممارسة سياسة تدوير الزوايا وتسويات ولّدت تسويات جميعها كانت مخيبة لآمال الطائفة (الأمة) “السنية” التي اعتبر الحريري أنه “بيها”، فكانت هذه التسويات بالنسبة له استراتيجية لإنقاذ لبنان من التعطيل والحرب الأهلية، وخطأه أنه لم يستدرك أن حزب الله وفريق ميشال عون اعتبرا أن التسويات ممراً تكتيكاً لزيادة مكتسباتهما الشخصية والمذهبية على حساب البلد وأهله.
ربما يرد قائلاً أن الحريري “علق العمل” ولم يعتزل السياسة، فعندما يعلق العمل دون وقت محدد كأنه يفتح المجال أمام نظرية جديدة وأمام شخصية لا تؤمن بالتسويات، ولا تكون نقطة ضعفها الإعتدال إن في السياسة أو في الدين، وهذا ما يهدد مضاجع من انتهج التعطيل درباً لفرضه تسويات تنازلية للسنية السياسية وعلى حساب حضورها ودورها كمكون اساسي، حين غالت باعتباراتها الوطنية أنها “أمٌ الصبي”، فيما الآخرون أرادوه “صبي لقيط”، فتعاطوا مع حضوره بكثير من الدونية وغلّبوا مصالح اجنداتهم الخارجية على المصلحة الوطنية. ليقفوا اليوم مشدوهين لا يجدون غطاءً لتجاوزاتهم وحقدهم الطائفي الاعمى.
لذا بدى الرجل متعب فعلاً من محاولات اقناع من حوله بفكرة انسحابه السياسي وكان واضحاً أنه لم يبنها من العبث أو بالصدفة، ولا عن طريق التنجيم في قراءة مستقبل الأيام القادمة لوطن كل قياداته السياسية والروحية شاركت في جره الى جهنمهم، ووضعوه بين فكي كماشة منظومتهم القائمة على توزيع مغانم الفساد بحماية السلاح الايراني.
وضوح الحريري جلي لم يوارب الواقع المرير الذي عاشه ك”زعيم سني”، ركّز كلماته بإجتماعاته مع نواب كتلته وقياديي تياره وفي خطابه الأخير، على سرد كل مراحل “التسويات” والفشل الذي رافقها متحملاً المسؤولية المباشرة في الأزمة لأن يتخلى عن القيادة ويلتحق بصفوف الجماهير وأن يبقى من خلال التيار الى جانبهم.
لم يكن توقيت عودة الحريري الى لبنان صدفة ولا تحديد عقارب الخطاب أمر روتيني، ولا حتى عودته الى الامارات العربية فور انتهائه من الخطاب مجرد توقيت تيكت سفر لا تحتاج الى التأويل، انما كان كل ذلك مرتب مسبقاً ومرتبط برزمة قرارات ترجمها الوسيط الكويتي بطرحه الورقة الخليجية المقفلة بعشرة شروط وغير قابلة للتعديل، ليضع كافة القيادات السياسية أمام مخاطر المرحلة المقبلة وأن لا تسويات فيها ولا ارانب حلول تخرج من جيب رئيس مجلس النواب نبيه بري، بل وضعت كمبادرة لفك عزلة لبنان الدولية والاقليمية وخاصة العربية مقابل تنفيذ كافة البنود فيها، وأهمها ١٥٥٩، ولأن الحريري يدرك مدى الآصرار الخليجي خرج ومعه تياره من الكادر السياسي، لنزع الغطاء الشرعي الرسمي اللبناني بعد رفع الغطاء الشعبي عن “الإحتلال الإيراني للبنان وسلاح وكيله”.
هذا ما يفتح الباب أن اللبنانيون مقبلون على مرحلة صعبة وأشد قساوة مما هم فيه، عشية المساومات الإقليمية والدولية وعلى حساب اللبنانيين إن بتسليم لبنان رسمياً الى إيران، واليمن الى السعودية وفق ما يوحى من محادثات فيينا وما ينتج عنها، ليعمل كلا الطرفين على “ترخيص البلدين” عمداً ليتسنى للمتحادثين المساومة بأقل الكلفة. فبعد أن استحكم الإنهيار بكامل مفاصل الدولة اللبنانية وأصبح لبنان أقرب الى الوضع اليمني الحالي اقتصادياً واجتماعياً. ما يرتب عدة مواجهة جديدة لإبقاء لبنان ساحة رسائل.
فبدلاً من أن تكون وطنية سعد الحريري قوته كانت مع الآخرين نقطة ضعفه، وأشبه بحالة الانتقال من مرحلة العمران الى مرحلة تفكيك هيكل الدولة حتى وصولها الى جهنم بغية اعادة بنائها وفق رؤية وأجندة صاحب السلاح ومحوره
لا شك أن المبادرة الخليجية وقرار الحريري وضعا الجميع أمام المسؤولية في تحديد هوية لبنان “العربية” وتنفيذ كافة بنود المبادرة، وتقليم “مخالب” حزب الله الجارحة والدامية ونقل لبنان من موقع الساحة الى موقعه في الحضن العربي.
فما قاله الحريري في قرار تعليق عمله السياسي لم يكن قادراً على قوله في المحطات السابقة التي قامت على حساب حصة “الطائفة السنية” وفق منظومة محاصصة ارتضى السير بها تحت مسميات الديمقراطية التوافقية، أو الميثاقية في تحديد الحصص مع فريق امتهن النفاق والإستقواء بالسلاح وبفائض القوة، واعتمد التعطيل تكتيكاً لدفع الحريري “التسووي” حتى صرف الرجل من رصيده الشعبي وعلاقاته الدولية والاقليمية ومن صلاحيات رئاسة الحكومة، كل ما استطاع عليه حتى ماله الخاص، من أجل أهم إنجاز في زحمة الفشل قطع الطريق أمام الحرب الأهلية، رغم أنه جاء على حساب تدمير لبنان بوسائل أخرى.
مشكلة الحريري رغم حسن النية التي يتميز بها عن باقي جوقة المنظومة، أنه اتخذ من التسويات استراتيجية للتعايش في كيان قائم على المحاصصة، في وقت أن خصومه يتخذون التسوية فن المساومة والتكتيك،
هذا ما أدخله بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ٢٠٠٥ حتى يومنا هذا في لعبة الضغط والتعطيل، فبدلاً من أن تكون وطنية سعد الحريري قوته كانت مع الآخرين نقطة ضعفه، وأشبه بحالة الانتقال من مرحلة العمران الى مرحلة تفكيك هيكل الدولة حتى وصولها الى جهنم بغية اعادة بنائها وفق رؤية وأجندة صاحب السلاح ومحوره.
في الظاهر مارست المملكة العربية السعودية ضغطاً هائلاً على الرئيس سعد الحريري لدفعه الى اتخاذ مواقف اكثر حدية وأكثر مواجهة للمحور الايراني للتخفيف من نفوذ حزب الله في الحياة السياسية. في وقت حزب الله والذي تعامل معه الحريري على قاعدة أنه مكون لبناني مارس ابشع أنواع الأدوار في هجماته العدائية المتتالية على السعودية ودول الخليج بل جاهر في بقتاله في الحرب اليمنية الى جانب الحوثيين، وشارك بقتل الشعب السوري الى جانب النظام، وبالتالي فإن الإنجاز ب”تقطيع” الحرب الأهلية الذي تحدث عنه الرئيس الحريري جاء على حساب تدمير لبنان إنما بوسائل أخرى.
فمن غير الطبيعي أن يكون هذا الخروج لا يلحق بدخول معادلة جديدة، تقوم على مواجهة “حزب الله” في رفض التسويات وعدم الرضوخ لفائض قوته التي يستمدها في كل مرة من تسوية جديدة مع فريق جديد.
لذا فأي بديل أو عودة “المستقبل” الى الحياة السياسية تكون قائمة على شد عصب المواجهة.