قراءة في كتاب حازم صاغية:”نانسي ليست كارل ماركس”
قراءة في كتاب حازم صاغية:”نانسي ليست كارل ماركس”
مناشير – كمال اللقيس
لا معنى للكتابة إن لم تكن نقدية. هذا ما سعى الكاتب حازم صاغية إلى تكريسه سمة عامة في كتبه ومقالاته، فإذا به يلامس حدّ السيف، يدك حصون المحظور ويثير الجدل والأسئلة، وبذا، غدا حجة في الثقافة النقدية، وهذا المؤَلَف الصادر عن دار الساقي في العام 2010 في 374 صفحة، يثبت صحة ما ذهبت اليه .
انه يستحق بحثًا معمقًا، وهذه مهمة ملقاة على كاهل اهل الكتابة والتأليف والنقد، أمّا انا، فسأحاول مناقشة بعض العناوين .
يلعب الكاتب بإختياره عنوان الكتاب وترتيب محتوياته، لعبة الإيحاء والإستدراج والإستنتاج، فالكتاب قد يحتمل عنوانًا آخر “ماركس ليس نانسي”، وترتيبًا آخر لمحتوياته يبدأ بماركس وينتهي بنانسي، وهذا يؤكد ما يصرح به المؤلِف بأن مستويات الحياة مستقلة لكنها غير منفصلة (جدل الترابط)، وينسجم مع بحثه القلق والمستمر، عن اكتمال المشهد الحداثي، من الأدنى البسيط تدرجًا إلى الأعلى المعقد في التجربة الانسانية، وهو إذ ينبري نقدًا بين هذين الحدّين، كأنه يشير إلى أنّ التأويل الإسقاطي، قد اجحف بحق ماركس الناقد وصاحب الجدل من الشاب الهيغلي إلى الشيخ الشيوعي، وظلم الحكم المعياري المطلق (سلبًا او ايجابًا) نانسي ومنعها من ممارسة انسانيتها على طريقتها “…فهي طاهرة حتى هذه اللحظة لكن بعد تلك اللحظة، سرعان ما ينشب ويندلع منها، هي الطاهرة حريق شيطاني “(صفحة13) .
في هذا السِفر الثقافي، تعمد الكاتب الإنتقال بنا من الفني إلى السياسي فالتاريخي، وبعبارة اخرى، نقلنا من الإمتاع والمؤانسة إلى الخصومة السياسية، الطوائف الوثنية، الإحتلال والمقاومة، إلى الخيارات الصعبة والأسئلة المفتوحة على الإحتمالات .
بإختصار، استدرجنا مؤلِفنا إلى حيث يريد، إلى الوقوف على أرض صلبة، تؤمن فسحة من التواصل، وهامشًا من التلاقي ومن الإتفاق على الإختلاف، لأنّ “الموت في التماثل والاختلاف حياة الزمن” (حسن حمدان/ مهدي عامل)، وجدل الإختلاف كفيل بأنْ يوصلنا إلى حيث نطمح، لكن هذا مشروط اولًا واخيرًا وأساسًا بالممارسة الديمقراطية. اما الناقد السياسي الذي عودنا دائمًا على حشد الدلالات في مقالات وكتب فيها اقتصاد في الكلام، صنعة لغوية، رشاقة وعمق في المعاني وحرفة اخراجية، فقد برع إلى حد بعيد في تقمص شخصية الناقد الفني، الذي يستحق – بجدارة – أن يكون عضوًا في لجنة تحكيم فنية، وعلى سبيل المثال، فبعد اكتشاف الكاتب مكامن الإخفاق في تجربة عبد الحليم حافظ الفنية / السياسية، نراه يلتقط الفرادة الحليمية التي تتجسد بإفراغ مكنون الذات والذوبان في الأغنية، فإذا به ينطق بلسان حالنا في علاقتنا الوجدانية مع عبد الحليم، وذلك بإحالتنا إلى تعبير دلالي لهذه العلاقة، نستخدمه على غير وعي منا في شكله، لكننا نتماهى مع مضمونه” … فإذا حكم المرء مسلحًا بالزمن ومجراه، قال ان الزمن يشهد لعمرو دياب، وإذا حكم عملًا بجيله وانا فوق الخمسين، لم يستطع الَّا الانحياز إلى عبدالحليم، فهو منا ونحن منه، نسميه بإسمه الاول (عبد الحليم) فحين نصل إلى سلفه نشعر بكثير من التصنع، إن لم نستخدم الاسمين معًا “(صفحة 34و35)، وكما حكم عبد الوهاب البياتي على شعر ادونيس بأنَّ فيه حداثة وليس فيه شعر، كذلك نحكم على عمرو دياب لصالح عبد الحليم، فأغنية عمرو دياب فيها صنعة موسيقية لكن ليس فيها روح .
من خلال ما تقدم وما سيلي، اعتقد بأنَّ هاجس الكاتب او غايته الوظيفية القصوى من هذا المؤلَف، هي إبراز المظاهر الحداثية على المستويين الفني والاجتماعي، وهذا ما نلحظه في كل العناوين المطروحة، فهو في باب “الكاميرا الديمقراطية”، يلهج بإسم الكثيرين ممن يتوقون ويعملون على كشف مثالب الأنظمة الذكورية ذات العمق الطوطمي والتي تساوي بين الكاميرا والجاسوس(صفحة43 و44) “… لأنها – اي الكاميرا – تزاحمها على سلطتها وتحرر نظرة المرء إلى الطبيعة من ثنائية الجميل والقبيح، والمقدس والمدنس”(صفحة45) الَّا أنَّ اللحظة الحداثية الحازمية تتكثف وتتجلى شكلًا ومضمونًا في اكتشاف الوعد الكامن في الفوتوغرافيا منذ بواكيرها “دمقرطة التجارب كلها بتحويلها إلى صور”(صفحة 56). أما عندما يشرع الكاتب في تدوين حميميته على الورق، نراه يستعرض اشخاصه بما لهم وبما عليهم بصدق بالغ وشفافية واضحة، حتى وإن اختلف مع بعضهم في السياسة (جوزيف سماحة)، ففي باب “اصدقاؤنا هنا واصدقاؤنا هناك”، نصادف نماذج حياتية وثقافية انسانية ذات تمايز بيِّن في عالم الكتابة والسياسة قرأناها وعرفناها.
لكن المؤلِف جهد في كسر ثنائية الكاتب والقارئ لصالح إلغاء المسافة بين المرسل والمتلقي، وبالتالي، ما عدنا بحاجة لقراءة الكثير من الروايات والقصائد والمقالات الصحافية والكتب النقدية، أو إلى محاولة إعادة قراءة تراث الراحلين منهم، لإستكشاف عوالم شخصيات الكاتب، فحسن داود (كاتب وروائي لبناني) “يملك انحيازًا للضعفاء لا يفتر، جسَّده في أغلب اعماله “(صفحة123) واحمد بيضون (كاتب ومؤرخ وناقد لبناني)”من القلة المهجوسة دائمًا بالإرتفاع إلى ما فوق الحرب، ويتجشم النزول المؤقت إلى ما تحتها بوصفه الضريبة التي لا بدّ من تكبدها للقبض على معرفة الحرب، ولا يتوقف عند رصاصها، بل يمدّ يده إلى اساطيرها المؤسِّسة “(صفحة126). أما حسام عيتاني (كاتب وصحافي لبناني) الذي ضاق صدرًا من ذلك الشيء الهيولي المسمى هويات طائفية، فنراه يستغيث ” لا صهر الطوائف يجدي، ولا اقتتالها الدائم بأمر محتمل، ولا تقسيم هذه البلاد ممكن، ولا هجرة قاطنيها عن بكرة ابيهم بالمقبولة… ويذكرنا بقلة النقد الفعلي الذي استهدف ذلك الأخطبوط المترامي الاطراف” (صفحة 128)، وبالنسبة لمي غصوب (روائية لبنانية وزوجة الكاتب الراحلة) فهو يرى بأنها ” كانت ثمة طاقة هائلة تسوقها وتحركها، كأن مي أرادت ان تحفر في كل الأمكنة في وقت واحد، ذاك انها وقد أرادت نفسها مواطنة فيها كلها، بادرتها بالصداقة حيث الصداقة استبطان لدواخل البشر … ” (صفحة 139) .
وعندما يصل الكاتب إلى صديقه جوزيف سماحة (صحافي لبناني راحل) الذي زاره للقيام بواجب العزاء برحيل زوجته مي غصوب فعاجلته المنية، يقر بالاختلاف بينهما في مقاربة الاستراتيجي والتكتيكي، لكنه يوصِّف لنا بدقة وإنصاف شخصية صديقه الراحل “في علاقة جوزيف سماحة بالسياسة، تداخل الذكاء الموصول بالأفكار، بعزة النفس الموصولة بالكرامة، فكأننا امام فيلسوف مشوب بقبضاي ،الأول يتأمل ويحلل ويوغل في المسائل، والثاني يمسك شاربيه متعهدًا، ملتزمًا، واقفًا عند كلام قاله لا يتزحزح عنه “(صفحة 140) ويتابع الكاتب في مكان آخر “كان جوزيف مشروع سياسي خارق لولا أنًّ تفاهة سياستنا لا تتسع لمعانيه، بينما ضحالة سياسيينا لا تتسع لنبله “(صفحة 143).
وإذ يتابع الكاتب رحلته المحفوفة بالمخاطر والمنزلقات، يقوده هاجسه إلى إحدى اهم ثمار الديمقراطية والحداثة، إلى الرإي العام، وههنا نسأل هل ثمة رأي عام عربي؟ وقبل ان نستكمل السؤال، نرانا نصارع طواحين الهواء، لأنَّ اليومي الحياتي الخاص – والذي يُقاس الرأي العام بناءً عليه- ينسحق دائمًا عندنا على عتبة العام الكلي، فإذا الاستلاب سيد الموقف، والجواب معلق على مشنقة القضايا الكبرى، وعلى هذا، يقدم الكاتب في باب “رأي عام عربي” بعض الخلاصات التي تثبت دخول الانسان العربي في نفق لا نهاية له “ذلك أنًّ الرأي العام ثانيًا، إنما يُقاس على اساس القضايا المحددة الاجتماعية والاقتصادية، وهذه القضايا في تجارب مجتمعاتنا العربية، تحتل مواقع متدنية في هرم الإهتمام العام… غير أنًّ العناصر الابرز في تشكيل الرأي العام، لا تزال مسائل السياسة الخارجية والهوية الدينية او ما يسمى غالبًا الكرامة الوطنية والقومية، وهذا ما يضعف السيرورة والدينامية الديمقراطيتين لبلداننا، مما لا يتبلور رأي عام من دونهما ” (صفحة187). “… بيد أنَّ الفرد في مجتمعاتنا العربية هذه، لم يصبح قائد التطور الاجتماعي… فهو لا يزال مغلوبًا على امره، يكبحه الله والشيخ والأب والأستاذ ورئيس العائلة او القبيلة، حتى أنَّ البنى التنظيمية الحديثة من احزاب ونقابات، تستدخل تلك الهرميات التقليدية، التي تسحق الفرد لمصلحة الزعيم” (صفحة187) .
وينهي حازم صاغية سٍفره هذا بتناول فيلسوف ملأ الحياة وشغل الناس قرابة قرنين من الزمن ولمّا يزل، فكارل ماركس الذي قال: “إنَّ العقل موجود لدى الانسان ولكن ليس دائمًا بصيغة عقلانية”، رُفع إلى “المقدس”، اُسقط في الحضيض، بُترت بعض نصوصه من سياقها التاريخي وصُنم بعضها الآخر، ذابت أفكاره لصالح اللينينية/الستالينية ، فأُدخل في ثنائية “الاله والشيطان” لأنه لم يُقرأ بصيغة عقلانية وبالتالي حداثية، وعوض أن تحاكم التجربة الاشتراكية الفاشله على ضوء امانتها للماركسية او ابتعادها عنها، حُوكمت الماركسية على ضوء التجربة الفاشلة. وانطلاقًا من فهمي للماركسية بأنها مرشد للعمل عبر التحليل الملموس للواقع المحسوس، أو بأنها الوعي المطابق للواقع (ياسين الحافظ)، أرى أنًّ الكاتب في معرض تناوله الباب الأخير من كتابه “كارل ماركس”، لم يتنكر او يجلد ماضيه الماركسي، بل كان موضوعيًا ومنصفًا في حكمه القيمي على الماركسية، حتى أنَّ بعض قساوته في بعض حديثه، جاءت لتخدم ماركس لا لتخذله، ولو أنَّ مبضع النقد (سلبًا او ايجابًا) تعامل مع الماركسية كما تعامل معها حازم صاغية، لكان وفَّر على اليسار الماركسي الكثير من السقطات التي ادت إلى ازمة يسارية مفتوحة، لم تنتهِ فصولًا بعد، وللتدليل على صحة ما سبق ذكره، سأسوق بعض ما ورد في هذا الباب .
“هل عاد كارل ماركس، على ما رأت مؤخرًا صحف ومجلات غربية عدة ؟ لكن السؤال الأدق: هل ذهب كارل ماركس اصلًا ؟ “(صفحة 347)” فحكام الاتحاد السوفياتي نسبوا أنفسهم إلى المفكر الالماني الكبير، وبإسمه وطدوا إحدى اكثر توتاليتاريات العالم بشاعة وقسوة، فيما لم يعد في وسع نزيل مقبرة “هاي غيت” ان يوضح اذا كانت هذه هي الماركسية، فما اعرفه أني لست ماركسيًا “(صفحة347)”
فليس اقل من مهرجان متواصل للعقل البشري، أن تستعرض الماركسية نفسها في سنوات خصبة من اعمار بيكاسو واراغون ولوكاش وبلوخ وغرامشي…وادورنو وفروم وهابرماس” (صفحة348)” وترافقت إماتة ماركس، بذريعة انهيار دولة لينين… فالعولمتان المالية الجامحة والبروليتارية الرثة المشبعة بالدين العامي، كانتا تتهيآن للإنقضاض، الاولى تشدنا إلى مستقبل يتعاظم التفاوت القائم فيه، حتى ينفرز في طبيعة الأشياء ولحمها، والثانية….لا تقيم طوباها المستقبلية الَّا بالرجوع الى مواضيها” (صفحة349)” .
“وهذا بالطبع لا يعني أنَّ ماركسية ماركس فوق النقد، فالخط اللولبي الصاعد الذي رسمته للتاريخ، أقرب الى خرافة خلاصية اخرى من النوع الذي درج في القرن التاسع عشر الموصوف بالعلموية “(صفحة350)” وبدورها، انطوت المساواتية الشيوعية على أصداء الحكايات التي ترويها الجدات لأحفادهن من الأطفال قبل نومهم، كي يحلموا احلامًا هانئة ووديعة، وهذا بالطبع، لم يردع طغاة “ماركسيين” كالروماني تشاوشيسكو والكمبودي بول بوت وغيرهما، من أن يحولوا تلك الأحلام كوابيس ترصعها الجماجم، وأن يقيموا معسكرات للعبودية وصروحًا لإمتيازات ملاك العبيد المحدثين “(صفحة351)”. مع هذا، هل يملك علم الاجتماع الراهن أن يمضي في سبيله من دون أن يتوقف عند الطبقات الاجتماعية، والانقسام حول توزيع الثروة، والسياسة المعبرة عن المصالح الاجتماعية؟” (صفحة352) “وفي المعنى هذا، كانت تعاليم الاستاذ الالماني، والبيئة التي ضمت محازبيه المختلطين، أبرز الجزر الصغرى التي تشبه جزيرة “الدولة البرجوازية”… فمن خلال التعاليم تلك، تعرفوا إلى المساواة بين الانسان والانسان، بين المرأة والرجل، الابيض والاسود، وعلى ضوئها ادركوا، أنًّ القبائل والعشائر والامم والاديان، ليست قدرًا يصحب الوجود الانساني بالضرورة … وهؤلاء مطالبون بأن يسددوا دَينهم للعقلاني والحداثي في كارل ماركس، بأن يظلوا يقولون”لكنها تدور” حتى لو قالت “جماهير” الطوائف والعشائر وقال المصفقون للضباط والملالي إنها ثابتة “(صفحة 356).