تفكيك العَسْكَرَة اللبنانية – أحمد جابر
أحمد جابر
انهار بنيان نظام حزب البعث في سوريا، فتردَّد صدى دويّ انهياره في دول الجوار، وفي سائر المنطقة العربية. تجاوز مراقبة آثار الانهيار في دول الإقليم البعيدة، وعلى مستوى السياسات الدوليّة المعنيّة بالوضع في الشرق الأوسط، هدفه إعطاء حيِّز موجز لما يعنيه سقوط النظام الحاكم في سوريا، في كل من العراق والأردن، وهدفه الأساسي، تسليط الضوء على النتائج المرتقبة لتداعيات السقوط على الحالة اللبنانية.
يراقب الأردن، المشهد السوري من نافذة تواصل رؤية الإسلام السياسي في كلٍّ من الداخل الوطني الأردني، وفي الطارئ الإسلامي الفائز، في الداخل القَلِقِ السوري. قد يكون التواصل أقلّ من ترابط سياسي تتوفّر وسائل استيعابه السياسية، انتقاليّاً، وفي المدى الآجل، ولا يمكن الجزم بانعكاسه في صيغة تبدّل جذريّ في برنامج “الإسلامية” الأردنية.
المراقبة العراقية تختلف عن جارتها الأردنية، في سِمَتَيْنِ إثنتين، أولاها سمة مشاركة السياستين العراقية والسورية، في اعتماد مقولة “محور المقاومة”، والثانية سمة قبول السياستين بمقتضيات النفوذ الإيراني الغالب، والاستجابة بالتالي للجوهري من طموحاته الإقليمية.
متابعة تداعيات الوضع السوري، ترتبط مباشرة بمراقبة ما سيتركه حراك الأوضاع السياسية والميدانية، من آثار على البلدين الجارين، مثلما ترتبط بالتفاعلات المحتملة للسياسات غير المستقرة داخل سوريا.
الجار اللبناني:
علاقة لبنان مع سوريا، لا تسقطها حالة سوريّة انقلابية، وهذا ما ثَبُت كملموسٍ سياسي منذ نهاية عهد الانتداب الفرنسي على البلدين، وبعد ما تتابع بعد الجلاء من تطورات سياسية، هادئة أو عاصفة.
معادلة “المسار والمصير” ليست معادلة وهميّة، ونفي وحدتها لا ينفي معادلة واقعيتها التي تبدو جليّة عند تفكيك عناصرها إلى كلمات سياسية ملموسة، فيها التاريخي وفيها الجغرافي، وفيها السياسي، وفيها البشري، في تجمّعه البعيد وفي انتشاره المتوسط والقريب.
عودة إلى الزمن الكياني. لم ينفصل نقاش المسألة اللبنانية التكوينية عن قرينتها السورية. ورجعة إلى الزمن الكياني الاستقلالي. لم تنفصل عُرَى الارتباط بين تكامل السياستين اللبنانية والسورية، وإياب إلى زمن الاستقلال في كيانين منفصلين. لم تستقر الاستقلالية في البلدين على أساس هادئ، بل ظلّ التداخل قائماً على تباين، وظلّ التواصل ملغوماً بتأكيد رغبة الانفصال لبنانياً، وباستبطان رغبة تأكيد الاتصال سوريّاً. على الرغبتين المفترقتين، ظلّ “المسار والمصير” متوجّساً في سوريا، في أوقات انزياح لبنان نحو الارتباط بمشاريع خارجية، وفي أوقات زمن انزياح سوريا نحو الارتباط بمشاريع وحدوية عربية أزمة سنة 1958 وسنوات الوحدة مع مصر، كانت من محطات ذلك الانزياح.
هذا في السياسة حيث الافتراق ظلّ عامل قلقلة مستدامة، وللسياسة رديفها التكويني حيث تشابه مصير الأقليات المنتشرة فوق الجغرافيا السورية، والأقليّات التي جمعها الكيان اللبناني في تأطير جغرافي أوسع من ذلك الذي كان لها في عصر المتصرفيّة.
عاملا النشأة، وعوامل التكوين السكاني، وعامل السياسة المرتبطة بالداخل العربي، وخطب الدينية السياسية… كل ذلك اجتمع في إطار آثار إن نفذت مفاعيلها، تضع الكيانيتين اللبنانية والسورية على سكة مصير متشابه من غير أن يكون متطابقاً، وعلى سكة مسارٍ، غير متوازٍ، لكنه متعدد التقاطعات.
هذه الاستثنائية “العلاقاتية”، تطرح على الحالة اللبنانية معالجة استثنائية لعدد من المواضيع التي لا تجد مكاناً مؤثّراً لها لدى الدولتين الشقيقتين، الأردنية والعراقية.
تفكيك العسكرة اللبنانية:
القصد من التفكيك، إعادة العسكرة إلى أجزائها بغية معاينتها منفصلة، قبل إعادة تجميعها. موضوع التفكيك كبنية قائمة بذاتها، كان له زمنه الصراعي الجامع، والأجزاء التي لها بنيات منفصلة قائمة بذاتها، ولها زمنها الصراعي الخاص، كان جمعاً ثم صار انفكاكاً، ثم صار إلى ما هي الحال عليه في لبنان وفي فلسطين، في حالتي الاقتراب أو الابتعاد، ودائماً بفعل سياساتٍ كان للخارج فيها دور اللاعب “الممتاز”، أو دور صانع الألعاب.
في الراهن، تتعايش في لبنان عسكرتان، أولاهما سياسية، تتوزع على أطر أهلية عديدة، والثانية عسكرية، تحتشد ضمن صفوف أهلية منفردة ومُفرَدَة.
الضرورة اللبناني تفترض فكّ العسكريتين، توازياً مع انفكاك الوضع السوري من إسار الاستبداد الذي تحكّم به طيلة نصف قرن من الزمان. كما هو واضح، لا تستوي ملامح العسكريتين اللبنانيتين، ولا تستوي مخاطرهما على استواء سيرورة الكيانية اللبنانية، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً، هو أن كل عسكري قتالي، له أصل سياسي، إنشائي وقيادي، وأن لكل عسكري عسكري، مآل سياسي، لا بدّ أن يصير إليه. انطلاقاً من ذلك، يتحدّد ميدان البحث في كسر العسكرة السياسية التي تحتشد على معنى الشدّة، وهذه من معاني العسكرة، وفي موازاة ذلك، ينطلق البحث في كسر العسكرية، التي أسّست للاستبداد في سوريا، وأسست للتحكم والهيمنة في لبنان.
لكن من المعني بالعسكرة في الحالة اللبنانية؟ جواباً عن ذلك، لا يمكن تجاهل أن المقصود هو وضع الأهلية الشيعية، فهذه جَرَتْ عَسْكَرَة مزاجها الغالب، بحيث طغت الشدّة على ما كان لهذه الكتلة من تسامحٍ ومن تفاعل وانفتاح، خاصةً مع السيد موسى الصدر، ومع الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومع عدد من الأسماء التي راجت مقارباتها اللبنانية المتميزة.
فك العسكرة الشيعية سياسيّاً واستيعابيّاً، هو من المهمات الابتدائية التي يجب أن تطرحها على ذواتها العسكرات السياسية التي يتقدمها اليوم حزب القوات اللبنانية، ويضيف إليها عدد من الأصوات الفائضة التوتر، التي لا توصل إلى نتيجة إيجابية، في “الأمثولة” الكيانية اللبنانية.
من دون مواربة، هنا سلاح “شيعي”، يجب أن يؤول إلى السياسة، وهنا وليس هناك، “أسلحة” أهلية، يجب أن تؤول إلى السياسة أيضاً. هذا يعني أن الآثار السلبية لكلا العسكريتين تتماهى، وإن لم تتطابق، ويعني أيضاً أنه في كل عسكرة سياسية، سلاح، وفي كل عسكرة عسكرية، سياسة.
مباشرة تفكيك “المعسكرين”، مهمّة ملحّة، وملحّ ومباشر، حوار وطني جامع، يرسم خطوط ما بين السياسة والسياسة، من اتصال.
هل يعادل ذلك مباشرة تنفيذ مهمة إنقاذ لبنان؟ هو الأمر بالتأكيد، وهو المعلوم الممكن، في ظل ما ينطوي عليه التحول السوري من مصير غير معلوم.