لبنان في سوق الذباحين
جميل الحسيني / مناشير
يعرّف علماء الأنثروبولوجيا العسكرة بأنها “عملية اجتماعية تهدف إلى دعم الجيش وتشكيل هياكل اجتماعية لدعمه”، ويرون أن “نزع السلاح يجب أن يُراعي الجانب الثقافي للاستعداد للحرب، وليس فقط الأسلحة ومنظوماتها”، ويضيف هؤلاء أنه “إذا كانت العسكرة تتعلق بتشكيل وبناء شعب يتبنى، أو على الأقل يؤيد، الأفكار والقيم الإيجابية المرتبطة بالحرب والقتل، فإن مجرد تدمير الأسلحة بعد وقوعها لا يكفي لنزع سلاح المجتمع بفعالية.. بل لا بد من خلق أنواع معينة من الجنود والرجال والنساء، وقبول هذه الأنواع الجديدة من الفئات وأنماط الحياة. إنها عملية إعادة إنتاج اجتماعية وسياسية وعسكرية؛ إعادة إنتاج للدولة من خلال القيم والهويات العسكرية؛ وتجنيس عنف الدولة الإبداعي والمُعاد إنتاجه في أجساد مواطنيها ومن خلالها”.. أي باختصار تشكيل مجتمع شعبي معسكر يتماهى مع كيان الدولة وبناها الثقافية والاجتماعية.. وهذا بالضبط ما يحتاجه لبنان في ظل التحدّيات الوجودية التي تتهدّد كيانه واستقراره.
في الحالة الراهنة وفق التعريف الأمريكي والإسرائيلي وفيما يتعلّق بلبنان والمقاومة، فإن مصطلح “نزع السلاح” يهدف إلى منع وجود أي “تهديد ضد إسرائيل” سواء عبر الكيانات العسكرية التقليدية (أي الدولة) أو حرب العصابات (أي المقاومة)، وقد سرى هذا التعريف بالحالة الفلسطينية وعلى أن يشمل أي حالة من هذا النوع داخل الكيان الصهيوني وفي ما يحيط به من دول، وتعميمه ابتداءً في فلسطين ولاحقاً في لبنان وسوريا، بحيث تكون هذه الدول كيانات منزوعة السلاح إلا من تشكيلات عسكرية تأخذ دور الشرطة والأمن الداخلي، ومهمتها قمع أي حركة من شأنها “إقلاق راحة إسرائيل ومواطنيها”، وهذا بالضبط ما هو مطلوب للبنان لكي يكون على شاكلة دولة السلطة الفلسطينية المنزوعة السلاح إلا من هراوات يتسّلح بها رجال الأمن الفلسطينيين لضمان العيش “بسلام” وبما يتناسب مع الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية.
استناداً إلى ما سبق يعمد البعض في لبنان إلى تصوير “نزع أو تسليم” سلاح المقاومة وكأنها قضية مندرجة في إطار ترتيب البيت الداخلي، وتصنيف المقاومة على أنها جسم طارئ وخارج عن تركيبة الدولة اللبنانية ويسهم سلاحها في زعزعة الأمن والاستقرار، إلا أن التجربة الميدانية منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان تؤكد أن هذه المقاومة لم تكن يوماً طرفاً في اي نزاع داخلي، بل كانت موجهة دائماً لمواجهة المحتل الصهيوني وتحرير الأرض والمعتقلين وتعبّر عن الإرادة الوطنية والشعبية بحيث أصبح حدث التحرير الذي تحقّق في أيار 2000 عيداً وطنياً رسمياً، ومن الطبيعي أن تبادر هذه المقاومة إلى تأمين عناصر قوتها ومقوّمات واستمرارها وإزالة التهديدات التي تحول دون ضمان فاعليتها في الحفاظ على الدور المنوط بها، سواء جاء هذا التهديد من الداخل أو الخارج، وعلى مدى أكثر من أربعة عقود قدّمت المقاومة ولا تزال تجربة فريدة في التكامل مع الجيش اللبناني ومؤسسات الدولة ومع بيئتها الحاضنة والداعمة لتتركّز الاتجاهات كلّها على مواجهة الاحتلال وحماية الأرض والشعب.
ولم يعد خافياً على أحد أن مطلب “نزع” السلاح هو في الأصل أمريكي – إسرائيلي ويتردّد صداه على ألسنة بعض الداخل ممن يرتبط وينفّذ الأجندات الخارجية، ويسوّغ هذا البعض هذا المطلب بضرورة حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية وأجهزتها كواحد من مظاهر السيادة، ولا أحد يجادل في أحقّية هذا الأمر من حيث المبدأ، ولكن المشكلة الجوهرية في هذا السياق تتجلّى في عدم قدرة هذه الدولة وأجهزتها حالياً في تحقيق ما أنجزته المقاومة، وجلّ ما يمكنها القيام به، أو بالأحرى ما هو مسموح لها أمريكياً القيام به، هو تشكيل جيش بمستوى تسليح متواضع يصلح للعمل فقط كشرطة داخلية دون أن يكون له القدرة على مواجهة عسكرية كبرى على غرار ما حصل في اجتياح العام 1982.
وفي هذا السياق يردّ الخبراء في الشأن العسكري على من يقولون بعدم قدرة المقاومة أيضاً على المواجهة بالنظر إلى نتائج الحرب الأخيرة التي خسر فيها حزب الله كبار قادته وكوارده وقدراته العسكرية، بالقول إن العدوان الذي استمر 66 يوماً على لبنان لم يؤدِّ إلى فرض “إسرائيل” واقعاً سياسياً او عسكرياً جديداً على الأرض بدليل أن الذي أعلن وقف الحرب في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر هو بنيامين نتنياهو نفسه، ويلفت هؤلاء إلى أن “إسرائيل” وعلى الرغم من تفوّقها التكنولوجي والعسكري والاستخباري في البر والبحر والجو والفضاء، وإقحامها فرقها وألويتها بعشرات آلاف الجنود، لم تستطع أن تتوغّل في الأرض اللبنانية سوى عشرات الأمتار بفعل استبسال المقاومين عند الحدود، وقد تكبّدت خسائر بشرية ومادية فادحة فضلاً عن الأزمة الاجتماعية التي تسبب بها نزوح المستوطنين من شمال فلسطين إلى مدن الداخل والوسط، ولذلك – يضيف الخبراء – انتقلت “إسرائيل” إلى الخطة “ب” عبر محاولة إنجازها بالضغط السياسي ما لم تحققه بالفعل العسكري، ويسألون: ماذا لو لم يكن هناك مقاومة!؟ من كان يمنع العدو من الوصول إلى بيروت!؟
ورداً على من يّتهمون المقاومة بأنها هي التي تسبّبت بهذه الحرب بفتحها معركة الإسناد، وهي حرب لا دخل للبنان بها واستدرجت “إسرائيل” للعدوان على لبنان، يحيل الخبراء هؤلاء المنتقدين إلى تصريحات مسؤولي العدو أنفسهم من رأس الهرم إلى قاعدته والذين كشفوا بكل صراحة ووضوح عن أن لبنان كان الهدف التالي بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على أن تكون سوريا الهدف اللاحق في إطار خطة شاملة تقود للهيمنة على المنطقة، كما أن المقاومة اكتفت أساساً بضرب المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية ولم تباشر باستهداف عمق الاحتلال الإسرائيلي إلا بعد أن وسّع العدو نطاق اعتداءاته في الجنوب وصولاً إلى مجزرة البيجر واغتيال قادة الحزب، وهي خطوات متدحرجة مخطط لها منذ سنوات وليست وليدة تطورات ميدانية طارئة، وهذا يؤكد صوابية قرارات المقاومة التي أحبطت مرامي العدو التي كانت ترمي إلى استعادة سيناريو اجتياح العام 1982 وتنصيب حاكم يأخذ بلبنان إلى الحظيرة الإسرائيلية.
لم تعد القضية في أن تعمد الدولة اللبنانية إلى نزع سلاح الحزب أو في إرساء آلية عملية وبرنامج زمني لتسلّمه وكيفية التصرّف به، فالقضية بالأصل: هل من الحكمة بمكان نزع السلاح وتجريد لبنان من أداة قوة تحميه وتدفع عنه العدوان!؟ أم أن الواجب حماية هذا السلاح والحفاظ عليه كعنصر توازن تستفيد منه الدولة في فرض معادلة وطنية جامعة تمنع تحويل لبنان إلى كيان لا حول له ولا قوة!؟ وهل من المنطق الوطني جعل لبنان أرضاً معرّضة دائماً للضرب والنهب متى شاءت “إسرائيل”، ولا حصانة لها ولمقدّراتها وثرواتها أمام الأطماع الإسرائيلية!؟ والسؤال الأكبر: من يضمن حماية الشعب اللبناني بكل مكوناته لا سيما بيئة المقاومة خصوصاً من استمرار التوحّش الإجرامي واستفحال نهج الإجرام والقتل والتدمير لدى العدو بحكومته ومجتمعه ومختلف مستوياته السياسية والعسكريةّ!؟
ليس هناك أمن أو منطقة آمنة مع عدو يمتهن حرفة القتل والإجرام، ولا ضمانة لأي جهة في منع هذا العدو من ارتكاب المجازر كما يشاء وأينما شاء، ويكفي فقط في هذا السياق استحضار ذكرى المجازر المروّعة في صبرا وشاتيلا ومثلها في رواندا وسربرنيتسا واستهداف “الممرات الآمنة” للفلسطينيين، وهي التي جرت على مرأى المجتمع الدولي وعلى مسمعه وبحمايته، ولم تكن هذه المجازر لتحصل لولا أن الضحايا ألقوا سلاحهم وسلّموا رقابهم وتخلّوا عن عناصر قوتهم فأسقطوا عنهم الحماية ليساقوا كالنعاج إلى سوق الذبّاحين.