خبر عاجلسياسة

كمال جنبلاط : الغائب الحاضر ومعه مشروع الوحدة اللبنانية

إعــــــلان
إحجز إعلانك الآن 70135365

كمال جنبلاط : الغائب الحاضر ومعه مشروع الوحدة اللبنانية


بقلم: محسن ابراهيم
نشر موقع ”بيروت الحرية” التابع لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني نصا للأمين العام الراحل الرفيق محسن ابراهيم حول مناسبة ذكرى اغتيال القائد كمال جنبلاط في 16 آذار من العام 1977. أهمية هذا النص الذي أعاد نشره ابراهيم في كتاب “آفاق العمل الوطني” الصادر في ايلول من العام 1984. ورغم مرور 41 عاماً على كتابته، فإن الكثير مما يقوله ما زال يحمل صفة الراهنية رغم العقود التي مرت عليه، سواء على صعيد الوحدة الوطنية اللبنانية والوحدات الكيانية العربية والقومية. وعنوانها في المقام الأول فلسطين وقضية شعبها. كما يتطرق إلى برنامج الاصلاح الديمقراطي والعلمانية في المجتمع اللبناني. يقرأ ابراهيم قائده ورفيقه كمال جنبلاط من زوايتي الوطنية والعروبة وقضية الديمقراطية. وهنا نص المقال:

لم يكن حضور القائد الغائب كمال جنبلاط بيننا، وازناً ساحقاً مثلما هواليوم منذ حدث استشهاده المرّ في السادس عشر من آذار 1977.

والذين كانوا شهودا على عصر كمال جنبلاط يتملك وعيهم في هذه اللحظة جوهر الدور الذي وضع مؤسس الحركة الوطنية في أعلى قمم تاريخ لبنان الحديث، دور القائد الفذ لمشروع الوحدة اللبنانية المحجوز منذ مطلع هذا القرن.

ولا نعطي كمال جنبلاط ما لا يستحقه حين ننسب إليه عبقرية خلاقة في علم السياسة اللبنانية، ووعيا حادا لأحكام التاريخ اللبناني وحسا مرهفا في التقاط نوابض التطور اللبناني، وشجاعة نادرة في امتلاك صفة القائد الاستثنائي المتطلع إلى حرق مراحل هذا التطور واختزال آلامه.. بل نحن ننصف الرجل ربما بأقل مما يستحق من انصاف لأنه كان الوحيد من أركان المعادلة اللبنانية الذي شق في زمنه عصا الطاعة عليها، ووجه سهام نقده الحاد إلى التكاذب السياسي الرائج في أوساطها، ووقف يعلن بالفكر والممارسة، في الصالون والشارع، الحقيقة الجارحة مؤكداً أن التقسيم في لبنان هو الواقع الفعلي وأن الوحدة اللبنانية مازالت مشروعا مرتجى.

ومن تجربته السياسية الغنية والطويلة اشتق كمال جنبلاط وهو يودع الستينيات ويطل على مطلع السبعينيات مشروعه المتكامل لإنجاز الوحدة اللبنانية على أرضية صلبة تطوي إلى غير رجعة قانون الحرب الاهلية المستمرة باردة على الدوام، والملتهبة قتالا كل عشرة أعوام. وكان أوضح ما في هذا المشروع ذلك التواصل العميق بين العوامل الخارجية والمقومات الداخلية التي اعتبرها كمال جنبلاط جسورا للعبور بلبنان، على حد تعبيره من مجتمع الطوائف المفككة إلى دولة الشعب الموحد.

هكذا كان كمال جنبلاط رجل العروبة بما هي رابطة وطنية داخلية، لا وحدة لبنانية في معزل عن رسوخها، وبما هي التزام قومي عربي يؤدي كل نقض له إلى موت سياسي واقتصادي اكيد للكيان اللبناني المؤسس على هشاشة ميثاق العام 1943 .

ولم يكن من قبيل المصادفة أن تحتل القضية الفلسطينية تلك المكانة البارزة في وعي كمال جنبلاط الوطني اللبناني والقومي العربي، فلقد كان يرى فيها عنصر التماسك الوطني والقومي الأبرز في وجه الحركة الصهيونية الساعية إلى تحويل المشرق العربي كيانات فسيفسائية تستحضر كل ما هو موروث من البنى الاجتماعية العربية المتخلفة ليكون تفكك الطوائف والمذاهب والاعراق وتناحرالعصبيات، قاعدة السكينة الأبدية للأمن الاسرائيلي. لذا يظلم المؤرخون كمال جنبلاط حين يصنفون فلسطينيته في باب الدفاع عن مجرد موقع كفاح مسلح للطليعة الأولى من انقياء الفدائيين الفلسطينيين، لأن الهم الفلسطيني المسلح سكن عقله ونبرته النضالية كان يتعدى الموقع الفلسطيني المسلح الراهن آنذاك إلى القضية الفلسطينية التاريخية، التي رأى فيها منطلق بعث الوحدة العربية في كل مكان وعلى كل المستويات.

وإلى ذلك نضيف أن انتماء كمال جنبلاط فكراً وممارسةً سياسية إلى حركة التحرر العالمية، لم يكن انتماء مصالح ذرائعية، بل نحن حين نضرب في جذور الانتماء هذا نرى خلفه خياراً ثقافياً أصيلاً، ونلمح من ورائه تطلع صاحبه إلى الحصانة الأكيدة في وجه كل دعوات الاغتراب والتغريب المنادية بانتماء متوسطي للبنان حيناً، والمتغنية بانشداده إلى عالم حر مزعوم في جميع الأحيان.

وضمن هذا الاطار تدرجت مواجهة كمال جنبلاط لمعضلة الوحدة اللبنانية وتسارعت افكاره وخطاه على طريق خوض مشروع انجازها على الارض اللبنانية. وفي هذا المجال حمل القائد الشهيد بوصلة لا تخطيء، حين اعتبر انجاز الوحدة اللبنانية مرادفا لتحقيق الاندماج الاجتماعي اللبناني. واذا كانت العلمانية بدت له بوتقة الاندماج المنشود، فان الذين خاصموا دعوته هذه، الصقوا بها تبسيطا ظالما وتسطيحا فارغا من أجل أن تسهل حربهم عليها ويتمكنوا من منازلتها بأسلحة فكرية مهترئة، وفي غير ميدان الصراع الحقيقي الذي فتحته على مصراعيه. هكذا توالت محاولات تزوير الدعوة العلمانية لكمال جنبلاط بتصنيفها مجرد دعوة حقوقية ينحصر مدارها في سجال حول قوانين الأحوال الشخصية وازالة بعض النصوص في الدستور. لكن هذه المحاولات كانت أعجز من أن تطمس جوهر دعوة كمال جنبلاط، الذي كان الرائد الأول في تجاوز ثرثرات العلمانية الحقوقية الفارغة نحو طرح الحل العلماني بصفته تغييرا وطنيا ديمقراطيا جذريا للنظام اللبناني بأوجهه الثلاثة المترابطة: حكم الاقطاع السياسي، وقيود الطائفية السياسية، ورأسمالية الاقتصاد الحر.

وبذلك كان كمال جنبلاط يقبض بالفعل على مفاتيح معضلة التجزئة اللبنانية ويراها على حقيقتها رديفا للنظام اللبناني السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي القائم، بطبقته المسيطرة وبمجمل مؤسساته وأدوات استغلاله وقمعه وتضليله الايديولوجي الهادف باسم التسامح إلى إعادة انتاج عوامل التجزئة والتقسيم على الدوام.

وحين كانت الشهابية بصفتها محاولة فوقية للتوحيد اللبناني تحتضر وتشهر افلاسها، كان كمال جنبلاط ينتقل من موقع اقتراح الاصلاح على الطبقة المسيطرة إلى موقع مقارعة هذه الطبقة التي جزم باستعصاء مصالحها على كل اصلاح.

هكذا اطل كمال جنبلاط على الختام الأغنى لتجربته السياسية ليقدم برنامجاً وسلوكاً ونضالاً، النموذج الأول للقائد الشعبوي في تاريخ لبنان الحديث. وكان نزوله الصاخب إلى الشارع، وكانت من ثم مغامرته الكبرى، مغامرة بناء النقيض العصري للنظام اللبناني الهرم. وعلى امتداد النصف الأول من السبعينيات، قاد كمال جنبلاط تيارا شعبيا عريضا اقتحم كل المناطق واخترق جميع الطوائف، وبدأ يفيض عن كل القوالب والقيود الطائفية التي أريد لها أن تظل على الدوام قماقم تحبس التطور اللبناني في نقطة المراوحة عند حدود الانقسام والتقسيم، ليبقى للطبقة المسيطرة اقتصادها وللاقطاع السياسي امتيازه وللثقافة الهجينة موقعها الغالب. وعلى قاعدة هذا التيار الشعبي بنى كمال جنبلاط حركة وطنية جديدة احدثت على رغم كل الالتباسات التي فرضت عليها، الفرز السياسي الاجتماعي الأول من نوعه في تاريخ البلد. ويكفي كمال جنبلاط فخرا أن التاريخ سيظل يشهد هنا في مصلحته، وهل أبلغ من شهادة الوقائع التي نتذكرها اليوم لنتذكر معها أن كل اجنحة الطبقة المسيطرة اجتمعت على كمال جنبلاط، وأن كل الطائفيات حاصرته.

وهل أبلغ أيضا من شهادة الوقائع التي نتذكرها اليوم لنتذكر معها أن كمال جنبلاط استطاع بحركته الوطنية أن يحاصر في المقابل كل اجنحة الطبقة المسيطرة ومعها كل الطائفيات، ردحاً طويلاً من الزمن. ولا نبالغ إذ نقول الآن أن مشروع الوحدة اللبنانية كاد يشارف طور الإنجاز بقيادة كمال جنبلاط حين وقف الشهيد في جبله يقول قوله المشهور “على هذه القمم تحسم وحدة لبنان وتتأكد عروبة ساحله”.

ولكن السباحة ضد التيار انهكت الزنود التي غالبت طويلاً أمواج الحصار، فانكسر المشروع ليعود لبنان إلى واقع الانقسام والتقسيم، إلى الحرب الأهلية المديدة التي نشهد طوفانها اليوم.

وإذ تغيب الحركة الوطنية التي أسسها وقادها كمال جنبلاط عن مسرح الفعل المباشر في تقرير المصير اللبناني الآن، فان خير اثبات لمدى اصالة التيار الذي مثلته هذه الحركة، يتجسد في حضور برنامجها المرحلي اليوم، بنداً من هنا وبنداً من هناك على كل موائد الحوار، وعلى ألسنة كل المنادين بإصلاح ديمقراطي جاد للنظام السياسي اللبناني.

هكذا نقرأ كلمات وليد جنبلاط بالأمس ونتعرف فيه مجددا إلى كمال جنبلاط، إلى الذاكرة الوطنية الأصيلة، إلى مصالح الكتلة الاجتماعية الشعبية اللبنانية الأوسع التي تمزق الحلول الطوائفية وحدتها وتدمر مصالحها وتقضي على تطلعها إلى التحرير والتوحيد والديمقراطية.

وما دامت هذه الكتلة باقية، ومعها الذاكرة الوطنية راسخة فان كمال جنبلاط الفكر الديمقراطي العلماني والالتزام الوطني القومي العربي والخط السياسي التوحيدي يبقى حياً، وتبقى وصيته تقرع وعينا كل يوم: حركة وطنية موحدة، حركة وطنية متجددة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى