تحديات الوضع الراهن والوقوف أمام الاسئلة الصعبة
كتب زكـي طـه في بيروت الحرية
14 أيار الجاري هو الذكرى الـ 76 لإعلان قيام دولة اسرائيل في العام 1948 على قسم من فلسطين. سبقه في 2 تشرين الثاني عام 1917 وعد من قبل بلفور وزير خارجية بريطانيا، الدولة التي تحتل فلسطين، وأكدته عصبة الامم في صك الانتداب عليها. أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فقد صدر عنها قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني سنة 1947. وهو القرار 181 الذي نص على أن “تنشأ في فلسطين دولتان مستقلتان عربية ويهودية” بعد جلاء القوات البريطانية.
76عاماً من الصراعات والحروب التي تكاد تختزل تاريخ المنطقة بأسرها. وفي سياقها وتحت راية تحرير فلسطين وتدمير دولة اسرائيل وإزالتها من الوجود، حدثت انقلابات وقامت ثورات وانعقدت مؤتمرات وقمم عربية واقليمية ودولية. وصدر بنتيجتها كم لا حصر له من التوصيات والقرارات التي تطالب بحقوق الشعب الفلسطيني على أرضه وبحقه في إقامة دولته المستقلة. كذلك جرت حروب عربية ضد اسرائيل، التي تمكنت من مواجهة كل ما يتهددها بدعم دولي اميركي وأوروبي، واحتلت كل فلسطين وسيناء المصرية والجولان السوري. وفي امتداد ذلك قامت معاهدات سلام وفصل قوات معها. كما تأسست مقاومات وقامت ثورة مسلحة لتحرير فلسطين من خارجها. لكنها حوصرت عربياً، وتولت اسرائيل مطاردتها بكل الاسلحة المتاحة. وكان الابرز فيها احتلال قسم كبير من لبنان وعاصمته بيروت صيف العام 1982. والنتيجة إخراج قيادة وقوات منظمة التحرير الفلسطينية منه إلى المنافي العربية. لاحقاً أجبرتها المقاومة المسلحة بجناحيها الوطني والاسلامي على الانسحاب من لبنان.
76 عاما ودولة اسرائيل لم تزل تكرر احتلال فلسطين، وتحاول اخضاع شعبها، والنيل من صموده ومقاومته، ودفعه للتسليم بالامر الواقع والتخلي عن حقه في العودة وفي إقامة دولته المستقلة. والتوقف عن مواجهة عمليات الاستيطان والتهويد والضم والالحاق ومصادرة الاراضي المستمرة، ومعها سياسات التدمير الممنهج للقرى وإقامة المعازل وتهجير السكان. لكن انتفاضات الشعب الفلسطيني المتكررة ومقاومته بكل الاشكال لم تنته. وهي التي نجحت في إجبار دولة الاحتلال والاستيطان على تفكيك مستوطنات والانسحاب الكامل من قطاع غزة، ومن أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وقيام سلطة فلسطينية وطنية عليها.
صحيح أن مبدأ وجود دولتين الذي وافقت عليه اسرائيل كما ورد في اتفاق أوسلو في ايلول 1993، لم يصبح أمراً وقعاً. لكن محاولات تنفيذه فتحت مرحلة جديدة من التحولات والصراعات الداخلية في المجتمع الاسرائيلي أدت إلى سيطرة اليمين واليمين المتطرف على السلطة في اسرائيل. وإلى انقلاب تيار المقاومة الاسلامية على سلطة منظمة التحرير والانفراد بحكم قطاع غزة. وعليه تجدد الصراع وتعددت المعارك والانتفاضات في مواجهة الاحتلال والحصار والاستيطان. جرى ذلك بالتزامن مع ما شهدته أكثر بلدان المنطقة العربية من أزمات متفجرة تحت وطأة الاستبداد والتهميش لمجتمعاتها. وتحولت ساحات لحروب أهلية مفتوحة شرّعت تدخل ومشاركة القوى والدول الخارجية الاقليمية والدولية. ما أدى إلى انهيار دول تلك البلدان وتدمير عمرانها وخراب اقتصاداتها والدفع بمجتمعاتها بعد تفكيكها إلى ميادين النزوح والتشرد والمجاعة في آن.
هذا السياق شكل اطار الحرب الاسرائيلية المتجددة والمستمرة منذ سبعة أشهر على الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية في أرضه. وهي الحرب التي انتجت هذا الواقع الصعب، والوضع الأشد خطورة على مصير الشعب الفلسطيني ومستقبل قضيته الوطنية، وعلى أوضاع ومستقبل سائر كيانات وشعوب المنطقة. إنه الواقع الذي يمكن وصفه بزمن التحديات الكبرى في مواجهة خطر إعادة تشكيلها وتنظيم أوضاعها.
ولا يقتصر مصدر الخطر على مفاعيل الحرب الاسرائيلية البربرية منذ ما يزيد عن سبعة أشهر على قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، وعلى جبهة لبنان الجنوبية وسواها. بل يتجاوزها إلى السياق العام لأوضاع بلدان المنطقة في ظل نفاذ استراتيجية الفوضى الخلاقة خلال العقود الماضية، بأدوات محلية وإقليمية، لتحقيق السيطرة والهيمنة الاميركية. وقد أتت الحرب الاسرائيلية في امتدادها، بكل ما تنطوي عليه من التقاطعات الاقليمية والدولية، مع أزمات البلدان العربية وما يحتدم فيها من صراعات وحروب أهلية مستدامة تتشابك فيها عوامل الانقسام الداخلي مع التدخلات والمصالح الخارجية. وأدى ذلك إلى قيام سلطات الامر الواقع الأهلي التي تحكمها وتتقاسم التحكم بها والسيطرة على أوضاعها، مما بات يهدد وجودها كيانات ودولاً ومجتمعات في آن.
وكما هو زمن التحديات الكبرى، كذلك هو زمن الأسئلة الصعبة التي تستدعي أجوبة تحتاج إلى من يبحث عنها على كل المستويات والصعد، من خلال قراءة نتائج الحروب والصراعات والمعارك القائمة وإعادة النظر بالسياسات المعتمدة. لأن ذلك يشكل مدخلاً للبحث في التعامل مع المرحلة المقبلة بكل تحدياتها وصعوباتها. بدءاً من إعادة قراءة السياسة والدور الاميركي القائم والمستمر في إدارة أزمات وحروب المنطقة، وأبرز تجلياته قيادة الحرب الاسرائيلية الدائرة حالياً، على سائر جبهاتها ومساراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية بكل أبعادها الايديولوجية والدبلوماسية. لأن الالتزام بوجود وأمن اسرائيل أصبح هدفاً مقدساً لدى أركان الادارة الاميركية، ولازمة يكررها رئيسها بشكل يومي.
أما التباينات والخلافات بين الادارة الاميركية والقيادة الاسرائيلية، فقد أثبت الوقائع أنها محكومة لسقف الاهداف المشتركة والالتزامات المتبادلة، في ظل الموقع الرئيسي الذي تحتله الولايات المتحدة في قيادة النظام العالمي، وطبيعة مصالحها في المنطقة، حيث يشكل وجود دولة اسرائيل ودورها ومصلحتها، احد مرتكزات السياسة الاميركية، ومعها سائر شركائها وحلفائها على الصعيد الدولي. صحيح أن تلك التباينات والاختلافات، تستخدم للتضليل السياسي، ووسيلة ضعط وابتزاز لانتزاع التنازلات. لكن الأهم فيها وعلى امتداد تاريخ الصراع في المنطقة، أنها غالباً ما تحولت مستندات للسياسات الخاطئة في اطار المواجهة معهما، وأفخاخاً لتوليد الرهانات القاتلة. يتجلى ذلك في استسهال تقديم التنازلات، والتفريط بعوامل القوة وهدر التضحيات والاستهانة بالانجازات المتحققة بدل تحصينها للبناء عليها.
هذا ما تؤكده الوقائع التي لا تحتمل الالتباس، بدءاً من أهداف الحرب الوجودية التي قررتها اسرائيل، إلى شعار حل الدولتين، ومشاريع الهدنة ووقف اطلاق النار والمفاوضات بشأنهما، مروراً بعملية احتلال مدينة رفح وتسليم الاسلحة والذخائر، ومصير قطاع غزة بعد الحرب، في ظل الاحتلال بعد السيطرة على معبر رفح. ولا تختلف عن ذلك قضايا الحصار وادخال المساعدات والمجاعة ومعها عمليات الابادة الجماعية امام المحكمة الجنائية والتصويت في مجلس الامن. كذلك الامر بالنسبة لسياسة التطبيع ومشاريع السلام وادوار الوساطة، والحرب في البحر الاحمر وعلى الجبهة اللبنانية. هذا فيض من غيض المسائل التي يُحكى عن خلافات حولها. وهي غالباً ما تكون موصولة باستحقاقات داخلية. كما هو الحال راهنا، بالنسبة للمصير السياسي لنتنياهو وشركاؤه في الحكم والمسؤولية عن الحرب ونتائجها. كذلك حول مفاعيلها ومضاعفات ما يرتكب فيها من جرائم حرب من قبل اسرائيل على الانتخاب الرئاسية الاميركية ونتائجها.
لكن الاسئلة الاهم هي التي تتعلق بأوضاع المنطقة وإعادة تعريف وقراءة مصالح بلدانها ومجتمعاتها وشعوبها، في ضوء نتائج تجاربها على امتداد العقود الماضية، في ظل سياسات وخيارات انظمتها حول سائر قضايا بلدانها ودولها ومآلاتها، وما هي عليه راهناً من انقسامات وحروب وصراعات. وإلى جانبها تجارب قواها المجتمعية بكل تياراتها القومية والوطنية واليسارية، وقضية الديمقراطية المفقودة. حيث من السهل تجاهل الواقع الراهن بكل ما ينطوي عليه من أزمات ومشكلات واستعصاءات على كل المستويات كما هو الحال في العديد من البلدان، في سوريا والعراق واليمن والسودان و.. وقبلهما لبنان وفلسطين.
لكن ما يواجه بلداننا ومجتمعاتنا هو الاستجابة إلى تنكب مسؤولية السؤال والبحث في قضاياها ومشكلاتها وما تواجهه من تحديات. ومغادرة الهروب إلى تضخيم خسائر الطرف الآخر واستسهال الانتصار عليه، أو الامعان في الاستقواء بالخارج والرهان عليه وانتظار حلول لن تأتي.
من الواضح أن الولايات المتحدة واسرائيل وشركاؤهما في الاقليم وعلى الصعيد الدولي، ومن مواقعهم المختلفة، بإمكانها قراءة أوضاع بلداننا ومجتمعاتنا بشكل جيد، ولديها القدرة على استغلال أزماتنا ومشكلاتنا، ومن الاستثمار فيها ومن قصور قراءاتنا لسياساتها ولأوضاعنا في آن. كذلك بإمكانها السيطرة على أزماتها وتنظيم صراعاتها تحت سقف مصالحها. لكن ما يواجه بلداننا ومجتمعاتنا هو الاستجابة إلى تنكب مسؤولية السؤال والبحث في قضاياها ومشكلاتها وما تواجهه من تحديات. ومغادرة الهروب إلى تضخيم خسائر الطرف الآخر واستسهال الانتصار عليه، أو الامعان في الاستقواء بالخارج والرهان عليه وانتظار حلول لن تأتي.
أما الأخطر فهو إدمان تكرار السياسات الخاطئة وتجاهل أخطاء تجاربنا واسبابها، والاقامة مع الأوهام التي يسهل معها هدر عوامل القوة وتدمير أوضاع قابلة للتطور، والتفريط بما تحقق من انجازات في مواجهة اسرائيل، كما هو الحال في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان، وتعريضها للدمار وللاحتلال من جديد. شاهدنا على ذلك مقارنة بسيطة بين ما كانت عليه أوضاع بلداننا ومجتمعاتنا قبل 76 عام تاريخ النكبة الاولى عام 1948، وما هي عليه الآن من النكبات والكوارث المقيمة والمخاطر الزاحفة على فلسطين وعلى سائر دول الجوار العربي المشار لها، بالنظر لما هي فيه من صراعات وحروب، وعمليات قتل ومقابر جماعية وتهجير وفرز طائفي وعرقي، ومن انهيار دول وخراب اقتصادي ومجاعات قائمة، تظللها أوهام الانتصارات الآلهية.