ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي اليوم، قداس الأحد على مذبح الباحة الخارجية للصرح، كابيلا القيامة، والذي دعا اليه مكتب التنسيق بين المؤسسات المارونية لمناسبة اختتام “سنة الشهادة والشهداء” وعيد البطريرك الأول مار يوحنا مارون، عاونه فيه المطرانان يوسف سويف وجورج شيحان بمشاركة لفيف من الأساقفة والكهنة.
حضر القداس النائب نعمة الله ابي نصر، رئيس المجلس العام الماروني الوزير السابق وديع الخازن، رئيس المؤسسة المارونية للانتشار المهندس نعمة افرام، رئيس الرابطة المارونية النقيب انطوان اقليموس، المدير العام لوزارة الأشغال طانيوس بولس، رئيس مجلس إدارة المدير العام للمؤسسة العامة للاسكان روني لحود، المديرة العامة للتعاونيات غلوريا ابي زيد، المدير العام المستشار في مجلس النواب هادي عفيف، رئيس رابطة قنوبين للرسالة والتراث نوفل الشدراوي، منسق العمل بين المؤسسات المارونية انطوان ازعور، رئيس “حركة الأرض” طلال الدويهي، المحامي جوزيف فرح ممثلا كاريتاس لبنان، المهندس مارون حلو عن المؤسسة المارونية العالمية للانماء الشامل، وفد من عائلة الراحل جرجس بولس عيد برئاسة نجله السفير ايلي عيد وأعضاء المؤسسات المارونية وعدد من الفاعليات والمؤمنين.
بعد الإنجيل المقدس ألقى الراعي عظة بعنوان “ان ابني هذا كان ميتا فعاش وضالا فوجد” قال فيها: “إن رجوع الإبن الضال إلى بيت أبيه، في هذا المثل الإنجيلي، يرمز إلى الخاطي الذي يدرك خطيئته، ويعي حالة البؤس الروحي والإجتماعي والكنسي الذي بلغ إليه. فيتوب ويرجع إلى الله، إلى سعادة الشركة معه ومع الجماعة المؤمنة والمجتمع. عنه يقول الآب السماوي ما قاله ذاك الأب الذي طار فرحا بعودة ابنه الضال: “إن ابني هذا كان ميتا فعاش، وضالا فوجد” (لو5: 24)”.
أضاف: “اختتمنا أمس “سنة الشهادة والشهداء” التي كنا قد افتتحناها في 9 شباط من العام الماضي بمناسبة عيد أبينا القديس مارون، لتختتم في 2 آذار الجاري في عيد أبينا البطريرك الأول مار يوحنا مارون. فيسعدنا اليوم أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية التي دعا إليها مكتب التنسيق بين المؤسسات المارونية، ويشارك فيها أعضاء هذه المؤسسات وأصدقاؤها. ويطيب لنا جميعا أن نشارك بما يليهامن نشاطات للمناسبة وهي التالية:النشاط الأول، إزاحة الستارة عن تمثال الشهادة والشهداء للنحات بيار كرم، وتقدمة المهندس نعمة فرام مشكورا. هذه المنحوتة من البرونز بطول مترين وربع، وبعرض متر، مرفوعة في باحة كنيسة الصرح الشمالية لتشهد بما تحمل من رموز ومعان: صليب المسيح المشع بأنوار القيامة، وفي الأسفل الشهيد المتألم والمتمسك بالإنجيل في وجه قوى الشر المقابلة، فيما يحتضنه والكنيسة رداء السماء، وفي الأعلى تشع شمس الحقيقة، والشهادة التي ترتقي الدروب نحو السماء حيث مسكن الشهداء الأبرار”.
وتابع: “النشاط الثاني هو تقديم النسخة الأولى من كتاب مار يوحنا مارون، الذي حققه الأباتي أنطوان ضو الأنطوني مشكورا، وتوزيعه، وهو تقدمة من سخاء المهندس أنطوان أزعور. والنشاط الثالث تقديم “أوبيرات الشهادة والشهداء”. فأعرب عن تقديري للأستاذ جورج عرب على وضع كلماتها، وللفنانين الذين اعتنوا بالألحان والتوزيع الموسيقي والإنشاد والاستوديو، وللمهندس نعمة فرام الذي سخا بها. وإني أحيي بيننا أسرة المرحوم جرجس بولس عيد الذي ودعناه معها منذ أسبوعين، فنجدد التعازي الحارة لزوجته وابنيه وبناته، وأشقائه وشقيقتيه وعائلاتهم، ونخص بالذكر عزيزنا نجله السفير إيلي عيد، العضو الفاعل في رابطة قنوبين للرسالة والتراث. ونلتمس للمرحوم جرجس الراحة السعيدة في السماء”.
وقال: “لقد بلغنا مع هذا الأحد الرابع إلى منتصف زمن الصوم الكبير الذي تتلو فيه الكنيسة إنجيل الإبن الضال. وهو مثل يشرح فيه الرب يسوع مفهوم الخطيئة ونتائجها، والتوبة ومكوناتها، والمصالحة وثمارها. فالخطيئة، كما تظهر من تصرف الإبن الأصغر، هي سوء استعمال خيرات الدنيا، والإفراط بالحرية الشخصية، من دون أي رباط وشركة مع الله. وهي بالتالي تعلق القلب والفكر والإرادة بالعطايا وإهمال الله معطيها ونسيانه والإستغناء عنه. فكانت نتيجتها الإفتقار من القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، وانحطاط الكرامة أمام الله والناس (الآيات 11-17)”.
أضاف: “التوبة، كما ظهرت عند الإبن الضال، هي وقفة رجوع إلى الله والذات. فبالرجوع بالفكرإلى الله ندرك غنى محبته ورحمته والطريق الذي بسطه أمامنا بكلامه ووصاياه، وبالرجوع إلى الذات يدرك الخاطىء حالته الشاذة والشقية. فيندم ويقرر الخروج من حالته هذه وأسبابها، راجعا فعليا إلى الله عن طريق الكنيسة التي سلمها المسيح الرب بسر الكهنوت سلطان سماع التوبة ومنح الغفران، وفرض واجب التكفير والتعويض عن الخطايا والإساءات لله ولجماعة المؤمنين وللناس (الآيات 18-20). أما المصالحة فهي جواب الله على توبة الخاطي. إنها تنبع من قلبه المحب والرحوم الذي ينتظر عودة أبنائه الضالين في طريق الحياة. تكفيه توبة القلب المنكسر، الظاهرة في الرجوع المخلص والقرار ببدء حياة جديدة. ثمار المصالحة التي يعلمها الرب يسوع بالرموز أربع: استعادة حالة النعمة المتمثلة بالحلة الفاخرة، تجديد عهد البنوة مع الله المرموز إليه بالخاتم في الإصبع، السير في طريق جديد المستنير بكلام الله كما نصلي في المزمور: “كلامك مصباح لخطاي، ونور لسبيلي” (مز 119: 105 )، وهو متمثل بالحذاء الجديد في رجليه؛ فالمشاركة في وليمة القربان على مائدتي الكلمة وجسد الرب ودمه، المرموز إليها بوليمة العجل المسمن (الآيات 20-23)”.
وتابع الراعي: “يعلمنا تصرف الله، نحن الخطأة الراجعين إليه، شهادة الغفران والمصالحة في عالم ينتشر فيه روح العداوة والحقد والإنقسام والإنتقام. فالمجتمع، في معظمه، ميال إلى ممارسةشريعة “العين بالعين والسن بالسن” (تثنية 19: 21)، وشريعة “محبة القريب وبغض العدو”. هاتان الشريعتاننقضهما المسيح بشريعته الجديدة وهي “عدم مقاومة من يسيء إلينا”، “ومحبة الأعداء والصلاة لأجل الذين يضطهدوننا (راجع متى 5: 38-39؛ 43-44). هذا التصرف الجديد ليس خنوعا وضعفا، بل هو قوة المحبة المسكوبة في القلوب بالروح القدس التي لا تتراجع أمام شهادة الدم إذا فرضت. وهم بذلك يشاركون المسيح في عمل الفداء”.
وقال: “إن شهادة الدم هي وجه من وجوه الاستشهاد: فثمة الاستشهاد الجسدي بالقتل والتعذيب والتهجير، والاستشهاد المعنوي بامتهان الكرامات وكبت الحريات، والاستشهاد القانوني بسلب الحقوق وممارسة الظلم، والاستشهاد القضائي بتوقيف أشخاص وعدم محاكمتهم، وبتعطيل الأحكام القضائية، وتسييس العدالة وتوجيهها واستباحة سريتها إعلاميا وسياسيا، وبالمماطلة الطويلة في إصدار الأحكام، والإستشهاد السياسي بإقصاء موظفين من وظيفتهم في الإدارات العامة، باتهامهم وحرمانهم من حق الدفاع عن النفس، فيما هم مخلصون للقانون، وغير ملونين بلون حزبي، وبإجراء تعيينات من لون واحد ومذهب واحد نافذ سياسيا، والاستشهاد الاقتصادي بافقار الشعب وحرمانه حقوقه الأساسية في السكن والتعليم والعمل والصحة والبنى التحتية. لا يمكن الاستمرار في هذه الحالات من الاستشهاد والمسؤولون السياسيون غير مبالين، وهم معنيون فقط بمصالحهم الخاصة”.
وختم الراعي: “باختتام سنة الشهادة والشهداء، لا نطوي صفحة أصبحت من الماضي، بل ننطلق في مسيرة جديدة مزودين بما علمتنا هذه السنة اليوبيلية عن معنى الشهادة والاستشهاد، وما اختبرنا فيها من وعي وإدراك. نسأل الرب يسوع “الشاهد الأمين” والشهيد الأول، أن يعضدنا جميعا بنعمته كي، بقوة الروح القدس وأنواره، نكون “شهودا له إلى أقاصي الأرض”(أعمال 1: 8)”.
احتفال
وفي ختام القداس أحيت المؤسسات المارونية احتفالا، وكانت كلمة للزميل جورج عرب تناول فيها مسيرة الشهادة والشهداء في الكنيسة المارونية، وكان عرض لأوبيريت الشهادة والشهداء بعنوان “مافي موت بيمحي الصوت”، مستوحاة من النص التاريخي الموثق لمعاني الشهادة في الكنيسة وظروف الاستشهاد خلال هجمة المماليك على مناطق الجبة وإهدن وحصرون وكفر صارون في الديمان وكسروان، وقدمها كورال دير مار الياس في انطلياس.
افرام
وكانت كلمة لرئيس المؤسسة المارونية للانتشار قال فيها: “أقف في هذه المناسبة وقفة تهيب وإجلال، متأملا في مسيرة الشهادة لدى الموارنة، وقد طبعتهم مذ وجدوا. إنها أولا مسيرة شهادة تعمدت بالدم، يوم تشكلوا أمة مؤمنة على خطى القديس مارون في القرن الرابع. باكورتها، استشهاد 350 راهبا من تلامذة مارون سنة 517. وهي مسيرة شهادة تكللت بالفداء، لما انتظموا، أواخر القرن السابع، في بناء بطريركي أسسه بطريركهم الأول، مار يوحنا مارون، الذي نحتفل بذكرى عيده اليوم”.
أضاف: “شهد الموارنة للمسيح ولإيمانهم الكاثوليكي وتعلقهم بكرسي روما. تبعوا يسوع على طريق الجلجلة، وركزت ليتورجيتهم على الآمه وموته وعاشتها معه، إلى درجة ظهرت فيها كنيستنا انها كنيسة الصليب، كنيسة الذي تألم ومات ليفدي الإنسان، كنيسة الاستشهاد الدائم. لم يقف الموارنة عند هذا الحد، بل ترجموا إيمانهم بشهادة للحرية، محققين استقلالا ذاتيا قبل نشوء الدول، وملجأ لكل عاشق حرية. واجهوا الاحتلالات والاضطهاد والمجازر على مدى تاريخهم، وكانت أفظعها مجاعة القرن الماضي. فاستشهد ثلثهم وهاجر ثلث آخر. مع كل ذلك، وعندما أؤتمنوا على تقرير المصير، رفضوا الوطن القومي المسيحي في فرساي العام 1920، وأبوا إلا وطن الشراكة والرسالة. هكذا ولد ميثاق العيش المشترك، وهكذا كرست نهائية لبنان الكيان، لبنان الوطن والدولة والهوية”.
وتابع: “لم تقتصر شهادة الموارنة على بذل الذات، والذود بالغالي والرخيص في سبيل إيمانهم وحريتهم ، بل راحوا يشهدون للعلم والمعرفة. بدأت هذه المسيرة ما بين المعلم الأول القديس مارون وتلامذته. وتتابعت مع المدرسة الأنطاكية، ثم مع الإرساليات بعد سنة 1516، فمدرسة روما المارونية سنة 1584. بعدها، كانت مطبعة دير مار قزحيا سنة 1585، فتأسيس أول معهد إكليريكي للموارنة في دير سيدة حوقا سنة 1624. ومع المجمع اللبناني المنعقد سنة 1736، شهد الموارنة دفعا ثقافيا هائلا مع تعميم المدارس والتعليم ومجانيتهما. لتنطلق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر سبحة الإنفتاح الحضاري على الشرق والغرب والعالم. واكب الموارنة عصر التنوير بشغف كبير، فأضحوا علامة فارقة في محيطنا المشرقي، ومنارة للعلم والمعرفة يقتدى بها. وبفضل إرواء عطشهم للنزعات التحررية، عرفوا في جبل لبنان أولى التجارب الديمقراطية مع نظام المتصرفية، ليشكل هذا النظام رحلة طير السنونو الذي يسبق الربيع، مع ولادة لبنان الحديث في لبنان الكبير”.
وقال: “إلى شهادة الدم والشهادة للمعرفة، لازم الموارنة شهادة عشق قيم الإنجيل. عاشوا المحبة والتضامن. تعاضدوا وتشاركت كنيستهم مع شعبها خيرات الأرض. واجهوا انحرافات التسلط. أسقطوا الطمع. تجردوا وتواضعوا. وجللوا الصخور والوديان بعرق الجبين. وكما الوردة مع أشواكها، ارتضوا شظف العيش والتقشف، رافضين الإغراءات التي أغدقت عليهم من امبراطوريات ذلك الزمن. وكان أن استعاضوا عنها بالعمل الشاق متحدين الشدة والوعر. صقلتهم الطبيعة وثبتت خطاهم، وزرعت فيهم مزيجا من التجذر والعناد. وبالتجذر والعناد استطاعوا رد اضطهاد العتمة للنور، واضطهاد الجهل للمعرفة، واضطهاد الحقد للمحبة. وبالقيم، شكلوا بهاء هوية لبنان. حلموا بالوطن أرض أخاء وحوار وتنوع. بالخميرة الطيبة عجنوا مع مواطنيهم تجربة حضارية عظمى، في العيش معا. وإذ اصطدم هذا الحلم مع وقائع أليمة وأجنحة متكسرة، لكنه كالفينيق أبى أن يموت، مسطرا تجربة إنسانية فريدة، سيقتدى بها يوما في العالم أجمع”.
أضاف: “مع مرور الزمن، نمت الأشواك في حقلنا الطيب. وها هم شهداء الكنيسة المارونية يستصرخونا استعادة وقار مارون، ويوحنا مارون، ومسيرة الموارنة الأولين ورسلهم. إني أسمعهم ينادون: اعلنوا ثورة القيم. استرجعوا الروح الذي كان يرفرف فوق أجدادكم يوم كانوا يعيشون في يانوح وميفوق ووادي قنوبين. إني أسمعهم يهتفون: بالإيمان سعادة. في المعرفة منارة. وفي القناعة مناعة. إنهم يعلنون: فقط بالكد والألم والمعرفة، تستطيعون جعل منظومتكم الوطنية المحكومة بالفشل، قصة نجاح تليق بلبنان الرسالة، كما تليق باللبنانيين وبإنجازاتهم وتمايزهم. أنقلوا أيها الموارنة ميثاق العيش معا الذي طبع مئوية لبنان الأولى، إلى عيش مشترك منتج ومبدع وخلاق في مئوية لبنان الثانية”.
وختم افرام: “إني أمام مثل هذه الشهادة وهؤلاء الشهداء أنحني. وفي إصغائنا لهذا الثالوث من الشهادة للايمان والمعرفة والقيم، سبيل وحيد كي لا يخجل ماضينا من حاضرنا”.
تمثال الشهادة والشهداء
ثم انتقل الراعي والحضور الى الباحة الشمالية لكنيسة السيدة في الصرح، حيث أزاح وافرام الستار عن تمثال “الشهادة والشهداء” الذي نحته الفنان بيار كرم وقدمه افرام، وهو أول تمثال في الكنيسة المارونية يرمز للشهادة والشهداء وعبارة عن منحوتة برونزية يبلغ ارتفاعها مترين و25 سنتيمترا وعرضها مترا واحدا.
وفي الختام وزع كتاب عن البطريرك الأول مار يوحنا مارون وفيلم عن الوادي المقدس.