هل قلب مقتدى الصّدر الطّاولة على الخصوم أم على نفسه؟
مناشير
بعد أقل من يومين على تلويحه بدفع نواب الكتلة الصدرية إلى الاستقالة والانسحاب من العملية السياسية لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، نفّذ زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر تهديده، طالباً من نوابه الثلاثة والسبعين أن يقدموا استقالاتهم من مجلس النواب.
وقد شكلت الاستقالة مفاجأة، كونها سابقة في الحياة السياسية العراقية منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين عام 2003. ومع أنه سبق للكتلة الصدرية أن انسحبت من حكومات سابقة في الأعوام 2010، 2008 و2014، غير أنها المرة الأولى التي تقرر فيها كتلة وازنة بهذا الحجم، بعد انتصارها في الانتخابات على خصومها، أن تخرج ليس من حكومة، بل من مجلس النواب الذي يعتبر المؤسسة الدستورية الأم.
إنها سابقة وخلفياتها الحقيقية غامضة لغاية الآن. فحتى اليوم لم يستطع شركاء الصدر في تحالف “إنقاذ وطن” الذي يضم، إضافة إلى الكتلة الصدرية، “تحالف السيادة” السني برئاسة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ورجل الأعمال خميس الخنجر، و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني، أن يطلعوا على الأسباب الكامنة وراء قرار بهذه الخطورة اتخذه حليفهم، بما أعاد خلط أوراق اللعبة السياسية برمّتها، وشرّع الأبواب أمام تداعيات كبيرة وخطيرة على أكثر من صعيد سياسي وميداني، لا سيما أن الصراع المحتدم بين الصدر ومجموعة “الإطار التنسيقي” الشيعي التي تضم في عدادها “تحالف الفتح” الممثل المباشر لفصائل “الحشد الشعبي” المسلحة التي تتبع لإيران، لم يخفت بعد هذا القرار. لا بل إن احتمالات التصعيد واردة أكثر من أي وقت مضى، لا سيما إذا ما قرر مقتدى الصدر الذهاب إلى معارضة في الشارع.
فلو أن الانسحاب كان من العملية السياسية الآيلة إلى تشكيل حكومة جديدة، والتمترس داخل البرلمان كمعارضة، لكان بقي الأمر ضمن جدران المؤسسة الدستورية الأم، لكن الانسحاب من كل العملية السياسية، وبالتحديد من البرلمان، أمر يدعو إلى الخشية من أن يكون خيار الصدر هو الذهاب إلى معارضة في الشارع، لا سيما إذا حسم “الإطار التنسيقي” أمره بالمسارعة إلى شغل المقاعد النيابية التي شغرت بعد الاستقالات، وفقاً للدستور الذي ينص على أنه في حال شغور مقعد نيابي يقوم المرشح الذي نال ثاني أكبر عدد من الأصوات في الدائرة بشغله. في هذه الحالة سيتمكن “الإطار التنسيقي” من رفع عدد أعضاء الكتلة إلى مئة وعشرين نائباً، فيما سيرتفع عدد النواب المستقلين بعض الشيء. هذا الأمر يستدعي بطبيعة الحال، إعادة خلط الأوراق بالنسبة إلى عملية تشكيل حكومة جديدة. عندها يفترض أن تجري مفاوضات بين “الإطار التنسيقي” وحلفاء الصدر، أي “تحالف السيادة” السني، والحزب الديموقراطي الكردستاني من أجل تجنب ممارستهما الأسلوب نفسه الذي حصل مع الصدر، أي استخدام ورقة “الثلث المعطل” لتعليق انتخابات رئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومة.
المناخ العام في أوساط “الإطار التنسيقي” حذر جداً، مع أنهم يميلون إلى استغلال الفرصة من أجل حصد مزيد من المقاعد النيابية، وتشكيل حكومة تكون لهم فيها غلبة حاسمة. بهذا المعنى ظاهر الأمر أنه بمثابة انتصار كبير للقوى الشيعية التابعة لإيران على القوى الشيعية المستقلة.
لكن الانتصار يبقى في الظاهر، ما لم يعرف تماماً ما الذي يحوكه مقتدى الصدر، لا سيما أنه في حال نزوعه نحو معارضة في الشارع يمكن أن يقلب الصورة تماماً، فهو يملك القدرة على حشد ملايين المؤيدين في الشارع، فضلاً عن أنه يمتلك القدرة على حماية هؤلاء بالسلاح الذي يملكه، وذلك خلافاً للمتظاهرين السلميين بين عامي 2019 و2021 الذين تعرضوا لاعتداءات دموية قام بها آنذاك مسلحو “الحشد الشعبي”.
كل ما تقدم يزيد من تعقيدات الوضع العراقي في مرحلة من أدق المراحل التي يمر بها الإقليم. فالمواجهة السياسية في العراق، هي وجه من وجوه المواجهة مع النفوذ الإيراني المستفحل في البلد. وأحد تجليات المواجهة يتمظهر في السجال الذي بدأ يطفو على السطح، بشأن مصير “الحشد الشعبي” كقوة مسلحة أُكسبت شرعية من خلال القانون، ولكنها بقيت مستقلة، تابعة بمعظمها لفصائل “الحشد الشعبي” المسلحة الملحقة عملياً بـ”الحرس الثوري” الإيراني من خلال “فيلق القدس” المعني بالملف العراقي الأمني العسكري.
هذا السجال كان سبق أن فتح ضمن الصف الشيعي في العام الماضي، عندما دعا الصدر في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى حل “الحشد الشعبي” ونزع سلاحه بشكل يضمن تقييد عمله ضمن ما نصت عليه فتوى التأسيس التي أطلقها المرجع الشيعي علي السيستاني. ودعا الصدر يومها إلى دمج قوات “الحشد” ضمن الجيش العراقي، بعدها عاد الصدر إلى التخفيف من حدة مواقفه ضد “الحشد الشعبي”، لكنه أبقى على شعلة الانتقاد متقدة، وظلت الدعوة إلى إيجاد حل لمسألة السلاح من خارج المؤسسات الأمنية حاضرة في الحياة السياسية العراقية، خصوصاً أن سجل “الحشد الشعبي” كان سيئاً للغاية في التعامل مع المكوّنين السنّي والكردي على حد سواء. أضف إلى ذلك استخدام إيران “الحشد الشعبي” أدوات لتنفيذ أجندات إقليمية غير عراقية، مثل استهداف القوات الأميركية المرابطة في العراق، وأيضاً استهداف قوات “التحالف الدولي”.
وليس خافياً على المراقبين أن “الحشد الشعبي”، باعتباره ذراعاً إيرانية، نفذ العديد من الاعتداءات على مواقع في إقليم كردستان العراقي. لكن الأهم والأخطر في سجل الحشد هو التجاوزات، لا بل الجرائم الخطيرة التي ارتُكبت بحق آلاف المدنيين بحجة محاربة تنظيم “داعش”. فحتى الآن، وبعد مرور سنوات طويلة لا يزال آلاف من الشبان السنة مفقودين ومجهولي المصير، بعدما اعتقلتهم ميليشيات “الحشد الشعبي” تحت شعار مكافحة الإرهاب، وكل المؤشرات تدل إلى أنه تمت تصفيتهم.
إن خروج الكتلة الصدرية من مجلس النواب، قد يفتح الباب أمام تشكيل حكومة جديدة. لكنها ستكون بتراء، والأهم أن معارضتها في الشارع قد تسقطها بأسرع مما يتوقع. أما خيار حل البرلمان فلا يزال خارج التداول الجدي.
خلاصة القول أن العراق يدخل مرحلة جديدة من الصراع الداخلي، ونفوذ إيران أساس فيه. فهل قلب مقتدى الصدر الطاولة على الخصوم أم على نفسه؟