نقاش البدايات – أحمد جابر
أحمد جابر / مناشير
الاضطراب العالمي الذي يقترب من الفوضى، يدعو إلى نقاش بداية جديدة لما كان معروفاً ومعرَّفاً، باسم الغرب وحضارته، وتطور مجتمعاته.
اهتزاز الوضع الناشئ ما بعد الحرب العالمية الثانية، يطرح نتائجه وتسوياته ومواثيقه وادِّعاءاته على بساط المراجعة المستفيضة.
ما كان قوميَّة عربيّة وأمّة عربية، وما كان شعارات نضالية وتقدمية وتحررية، ونتائج الرحلة الطويلة منذ 1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى، كل ذلك مواضيع مجتمعة تحث على محاولة فهمها فهماً جديداً.
وما كان فلسطين، والصراع العربي الصهيوني، ثم الصراع العربي الإسرائيلي، ثم صار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني اليوم، ينبغي تشريحه مجدّداً بمبضع الجراحة الفكرية والعملية، بعد تلك العقود الطويلة من اندلاع الصراع.
الإقدام على التصدي للواقع الشامل الجديد، خطوة تبدأ من حال الواقع الآن، ثم العودة به القهقرى إلى أنسابه النظرية، وإلى نتائجه التي قامت باسم هذه النظرية، وباسم تلك الدعوة الفكرية، الانطلاق من الآن، هو دليل التنفيذ، ووسيلة الإيضاح، وهو ممحاة الادعاء من جهة، وهو لاصق التثبيت لما أثبتت صحته “الحياة”.
يحصل أن وقت الوقوف التأملي أمام كل اللوحة الذاتية والغيرية، تستدعيه المجزرة المستدامة في فلسطين، ويحصل أن المرآة الفلسطينية تعيد فضح الجريمة الاستعمارية الأولى التي نزلت بها، وأنها تفضح في ذات اللحظة، تمادي المستعمر الأصلي في جريمته اليوم، هذا الذي يؤمن أسباب الدعم الما فوق اللازم للمستعمر الوكيل، فيمدُّه بسلاح القتل وبسلاح التضليل، وبسلاح الحماية والرعاية، وبأسلحة إسقاط المنظومة “الأخلاقية والإنسانية”، التي كان المستعمر قد جعلها خاتمة لحروب النهب التي دارت في دياره، وفي ديار البلاد البعيدة التي كانت هدفاً لنهبه.
السقوط “الحضاري” الغربي خصوصاً، يطرح أسئلة عديدة، وهذه يلخِّصها سؤال واحد: ما الذي بقي من ادعاءات الحضارة الغربية؟ البحث الهادئ، في ظل الوضع الصاخب، سيجد أمام عينيه الناظرتين هشاشة أسس المواثيق الإنسانية، ونفاق شعارات القرية الكونية، وكذبة معادلة العدالة والمحاسبة والشفافية، وفي إزاء ذلك، سيكون في يدّ الباحث الهادئ، مادة إدانة واسعة يستلّها من المأساة الفلسطينية التي لا تندمل جراح أهلها.
محاكمة الغرب “الحضاري” باسم مقولاته، تسفر عن حقيقة سقوط هذه المقولات، وتَثبت حقيقة مُقابلةً صادمة، هي أنَّ ما كان “نهضة” في الغرب، اقتصرت نتائجه الإيجابية على الغرب دون غيره، وشرط إيجابية النتيجة في تلك الأرض، كان “رَمْي “العالم الآخر”، في أسوأ الأوضاع، وتكبيله بقيود أسوأ النتائج. لنتذكر سريعاً الحروب المتنقلة بعد الحرب العالمية الثانية، من كوريا إلى الصين إلى فيتنام… إلى فلسطين، ولنقرّر أن آلة الحضارة الغربية بَنَتْ عمارة “رخائها” فوق ركام خرابنا المستدام.
بالانتقال إلى الحال العربية، أو إلى أحوال العرب، ولعلّه الأقرب إلى الواقع المتحقق، يجب البدء بسؤال: لماذا حصل معنا ذلك، وليس لماذا فعلوا بنا ذلك، سؤال قديم ردّده بحق أكثر من “مشتغل” عربي على هزائم أمّته. العودة إلى مساءلة الذات، أساس صحة منطق المساءلة، وما سوى ذلك هروب من المسؤولية، أي هروب إلى التضليل الذي أجادت “العقلية” العربية توظيفه واستخدامه.
لماذا حصل معنا ذلك؟ الأجوبة عديدة ومتفرعة، ومصادرها دينية ودنيوية، وركائزها بنيات ولدت وترعرعت وحكمت وتسلطت واستبدَّت… وفق نسخ متعددة، لكنها كانت مشدودة إلى أصل اجتماعي متشابه، هو أصل “العصبيات” القبلية، التي لم تفلح في بناء “دولة أمّة”، ولعلّها لم تضع على جدول أعمالها بناء هكذا دولة.
الاجتماع العربي على مصطلح المجموع المتحلِّق حول افتراق كامن، هو السائد، والخلاف المطوي المضمر كأصل، ينشر شراعه ويعلن هدف إبحاره، ما إن ينفخ في بوق الربّان. الافتراق في الديار العربية، دليل السياق السياسي العربي العام، منذ زوال الإمبراطورية العثمانية، أما اللقاء فكان اضطراريّاً في محطات قصيرة كان لها عنوان الحروب، بعد ضياع فلسطين، وأثناء قيام حربين لتحرير ما ضاع من أرض عربية.
ولأن اللحظة فلسطينية، ولأن الادعاء العربي الرسمي الانقلابي قام باسم تحرير فلسطين، يجب مراجعة “العسكريّة” العربية بشقيها: الرسمي والشعبي، لقول خلاصة في مآل المحاولتين القتاليتين، ومن أجل معاينة النضالية الحالية المستمرّة في سياق صياغة هذه الخلاصة
ولأن اللحظة فلسطينية، ولأن الادعاء العربي الرسمي الانقلابي قام باسم تحرير فلسطين، يجب مراجعة “العسكريّة” العربية بشقيها: الرسمي والشعبي، لقول خلاصة في مآل المحاولتين القتاليتين، ومن أجل معاينة النضالية الحالية المستمرّة في سياق صياغة هذه الخلاصة. لا تستغرق المراجعة في بحث الاستراتيجيات العسكرية، ولا في بحث المناورات الميدانية، مثلما لن تستغرق في بحث أسباب الهزائم أمام الآلة العدوانية الصهيونية، فهذا سال حوله نقاشات مستفيضة، ولمن كان ذا هوى تاريخي، حرية العودة إلى مجلّدات ذلك النقاش. اللحظة لا تحتمل استغراقاً استرجاعياً، لكنها تكتفي بمفتاح سؤالين تاريخيين – راهنين، يشكّلان مادة خوض في الحاضر وفي المستقبل، في ضوء “ما حصل وما كان” في الماضي. إذن ما مفتاح السؤالين، بفرعيه الغائبين – الحاضرين؟
الفرع المفتاح الأول: ما حصيلة الحروب النظامية التي خاضتها الأنظمة العربية مع إسرائيل؟
الفرع المفتاح الثاني: ما حصيلة نظرية الحرب الشعبية الطويلة الأمد ضد الكيان الصهيوني؟
جوابان لم تدحضهما وقائع مغايرة حتى الآن: لقد أنتجت الحرب الرسمية العربية اتفاقية كمب ديفيد، فاختتمت مسيرة التحرر والتحرير “النظامية”. وأنتج الكفاح المسلح الشعبي الذي أعلنته حركة فتح منذ مطلع سنة 1965، اتفاقية أوسلو، فاختتمت حقبات نضال الشعب الفلسطيني انطلاقاً من أرض الغير، وانتقل ثقل القضية الفلسطينية إلى أرضه الطبيعية، جغرافياً، أرض و”مجتمع” فلسطين.
ماذا عن اليوم؟ لا يستطيع مُدَّعٍ الدعوة إلى إعادة رصّ الصفوف العربية، رسميّاً ونظاميّاً، فهذه مرصوصة اليوم فقط حول تأمين مواد الإغاثة لما تبقى من “أفواه” فلسطينية. في المقابل، لا يستطيع متحمِّس نضالي الدعوة إلى اعتماد الكفاح المسلّح انطلاقاً من كافة “دول الطوق” المحيطة بفلسطين، ذلك أن الطوق بات عربيّاً لغةً فقط، وبات مهادناً وساعياً إلى سلامة طال انتظارها، “وطنياً ودولتياً”.
قد ينبري قائل بسؤال: لكن ماذا عن التجربة اللبنانية؟ الجواب الحقيقي، هو أنّ التحرير اللبناني كان شواذاً ثم عاد ليثبت القاعدة، قاعدة مهادنة كمب ديفيد، وتعميقها وتعميمها.
وقد يبادر فلسطيني بسؤال: لكن ماذا عن التجربة الحماسية اليوم؟ الجواب الحقيقي، هو أن تحرير فلسطين من داخلها ممنوع وممتنع ولا تتوفَّر قدراته، ومن شاء شرحاً فاللوحة أمامه.
في السياق، وكي يظلّ النقاش من المراجعة مفتوحاً على مداه، يجب السؤال مجدّداً، عن التحولات التي أصابت “الصهيونية” التأسيسية، وكذلك عن التطورات التي صارت جزءاً من بنية إسرائيل المجتمعية الراهنة، والسؤال أيضاً عن الممكنات التاريخية التي قد يفتحها المستقبل، بعد أن وصل الجميع إلى استعصاء سياسي شديد التعقيد؟
سؤال التاريخ الآتي، سؤال سياسي ومجتمعي وجودي، على الصعيدين الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ذات السؤال الذي يجب أن يهتدي إلى العنوان الواقعي الذي يقتضي التمسك به اليوم. في هذا في الراهن، وفي ظل اللوحة العالمية العامة، قد يكون الشعار الأصوب عربياً وفلسطينياً، هو شعار تثبيت شعب فلسطين في أرضه، ومن ثمَّ دعم هذا الثبات عربياً وعالمياً، في مجالات السياسة والاقتصاد وتطوير العمران… تثبيت الشعب، يخالف سياسة وأساليب هزَّ هذا الثبات، فالوجود المادي البشري هو ضمانة استمرار قضية فلسطين، ولهذا الوجود المادي أن يقرّر شكل تثبيت ثباته واستمراره، بعد كل التجربة التي مرت بها حروب الشعب الشعبية، وحروب السلطات النظامية.
الشعب أوّلاً، ليكون البلد أولاً، هذه معادلة فلسطينية، ومعادلة لبنانية في الوقت ذاته، وعليه، ليكن السلاح في خدمة شعبه، ولن يكون الشعب في خدمة سلاحه، ولكل شعب خياراته المفتوحة في سعيه إلى تحقيق مصالحه، وإلى تأمين حياة حرّة مستقلة كريمة، في بلد حرّ مستقلّ كريم.