الصراع على لبنان – أحمد جابر
كتب أحمد جابر / مفكر ومحلل سياسي
ابتعدت احتفالية التحرير، وانقضى ربع قرن على زمن جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن أرض لبنان المحتلّة. المرحلة اللاحقة، التي امتدت حتى يوم انفجار طوفان الأقصى انطوت صفحتها، وها هم اللبنانيون يواجهون حرباً جديدة تبدأ من “أمن” الحدود، وتطاول بنتائجها المحتملة، أسس “الوجود”. تشابك العناصر الخارجية والداخلية، مثل تعقيداتها، يحول دون ترجيح سياسي ختامي، فهذا، وبسبب من كثرة المتدخلين، يصير أقرب إلى أعمال التنجيم، لذلك يبقى الأجدى متابعة ما يجري في الميدان القتالي، الذي يعود إليه أمر تعديل الخطط الأصلية لكل الأطراف، مثلما يعود إليه أمر صناعة التوازنات السياسية والجغرافية الجديدة. الأمران مجتمعان يسمحان بالقول أن كل أطراف الصراع الحالي، سيكتبون بأقلامهم المنسجمة والمتنافرة والوسطية… تاريخاً جديداً، للمنطقة الرجراجة التي لمّا تستقرّ على تاريخ.
الجبهات – الساحات:
فحص الأسلحة ونقدها ومراجعة أدائها، عملية موحّدة متناسقة ومستدامة. متواليات سير المعارك، ومفاجآت الميدان، والاستجابة القتالية للتطورات، ينطوي كل منها على نتيجة سياسية تكون ذات وزن معيّن في حينها، ثم تصير ذات أوزان مرجّحة بعد عملية تراكم إيجابياتها أو سلبياتها. بكلامٍ موجز، المتواليات هي الحدّ الفاصل بين اسم النصر، وتجسّده، وبين واقع الهزيمة، وأعبائه.
الحديث عن الجبهات – الساحات، يندرج في تقدير حسابات القوى الذاتية لدى المقاومة المتعددة الأطراف، التي تخوض المواجهة الحالية. من الملاحظ، ومن دون إنكارٍ مكابر، أن الساحات كانت إعلاناً سياسيّاً، ولم تكن جبهات قتالية، إلاّ في فلسطين، ساحة الصراع التاريخية الأولى، وفي لبنان ساحة الصراع الرديفة التي شكّلت إسناداً عمليّاً مباشراً لفلسطين، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وحتى لحظة الاشتباك الناري اليومية الحالية.
لقد أدّى مصطلح الساحات دوراً سياسيّاً فقط، استفاد منه السياسي الإيراني، الذي يعلن عاصمته مرجعيّة لهذا المحور، واستفاد منه أيضاً، مجموع التشكيلات القتالية الموازية، في العراق، أو في سوريا، ووضعه في الصراع الداخلي، الفصيل الحوثي في اليمن، الذي يخوض حربه الأهلية الخاصة ضد أبناء البلد الواحد.
مراجعة الوحدة المفترضة بين الساحات، تخلص إلى بعض جمل موضوعية، منها: أن الإسناد الصاروخي من بعيد، ليس بذي أثر في ساحة المعركة الفلسطينية اللبنانية ضد إسرائيل، وأن “الصاروخية” اليمنية، قد أضرَّت بالاقتصاد المصري، من دون أن تحدث كبير ضرر في واقع البنية الاقتصادية – العسكرية، الإسرائيلية. وعليه، توجب الجمل الخلاصة أعلاه، القول إن المواجهة ما زالت ملقاة على أكتاف اللبنانيين والفلسطينيين، وتوجب القول أيضاً وأيضاً، إن الكلفة الباهظة جدّاً جدّاً، والتي دفعها الفلسطينيون، في غزّة، وفي الضفة الغربية المحتلة، يجب أن تكون حافزاً للبنانيين للوقوف أمام احتمال الخسائر اللاحقة التي قد تنزل بلبنان، بعد أن لمس الجميع طلائع هول هذه الخسائر.
جبهة المقاومة اللبنانية
اسم جبهة المقاومة اللبنانية، هو الوصف الأقرب لواقع الحال اللبناني، فالحرب على الحدود تجاوزت الفصيل المقاتل الذي يدافع عنها، لتعمل آلتها القاتلة التدميرية، في مختلف الأرجاء الوطنية. الاسم هو الأقرب أيضاً، إلى ضرورة تأطير الكتلة الأهلية الشيعية، ضمن الانتساب العام للكتل الأهلية اللبنانية، فالشيعية، وقريناتها، تتفاوت نظراتها إلى “بلدها”، وإلى معناه، لكنها تدير “اشتباكاتها” تحت سقف المعنى المشترك، وتختلف حول الاجتهاد فيه. ذلك هو قاموس المصالح الأهلية، الذي يُفَسِّرُ على افتراق، ويَجْمَعُ على تأويل واجتهاد. عليه، لا يغيّر اسم المقاومة الإسلامية في مضمون لبنانيتها، ولا تنقص مستنداتها “الروحيّة” من زمنيّتها اللبنانية، لذلك، يقتضي الأمر التعامل مع أدائها على قاعدة انتسابها اللبناني الأصيل، وليس على قاعدة نعتها بخارجية دخيلة. الاستطراد المُقارن، في هذا المجال، غير مُجْدٍ، بل هو عظيم الضرر، لأنه سيوصل من يخوض فيه، إلى خارجيّات لبنانية متباينة، وإلى حصيلة “الصفر”، في مضمار تكوّن الوطنية اللبنانية العاثرة.
أي نقاش؟
لأن الحرب المستعرة، هي حرب كل لبنان، يصير نقاش أمورها السياسية والميدانية من حقّ كل اللبنانيين. ولأن الفصيل المقاتل هو واحد من عناصر “المجموع الأهلي” الداخلي، يصبح انضمام هذا الفصيل إلى مجموعة نقاش المصالح اللبنانية، البعيدة والقريبة، مسألة ضرورية ومطلوبة. العمل من ضمن المجموع السياسي، يحكمه القبول المتبادل، وتقوده المسؤولية المشتركة، وهدفه النجاة بالبلد وأهله من أهوال الخسائر، أو بالحدّ منها في أضعف الحسابات وفي أقل الاحتمالات.
في اليوم اللبناني الراهن، النقاش محكوم بنقطة بدءٍ واقعية خطيرة، هي نقطة احتمال توغّل العدو الإسرائيلي في عمق الأراضي اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من احتمال خطر احتلال جديد، يعيد تعليق المصير اللبناني على سارية مجهول التطورات الدولية والإقليمية. السؤال الذي يُبنى على نقطة الابتداء هو: ماذا يستطيعه اللبنانيون مجتمعين، في مواجهة هذا الخط؟ سيكون تبسيطياً الردّ بالدعوة إلى استنفار قتالي عام، فهذا ممّا لا يقع في مجال الإمكان، ومّما لا يقع في مجال التوافق الإجمالي عليه. في موازاة ذلك، سيكون موضوعيّاً وواقعيّاً، تقديم جواب يجمع بين الممكن السياسي، الداخلي والخارجي، وهو كثير، وبين المستطاع الميداني، وهو محدود ومحدّد، بعامل الزمان وبعامل القدرة الذاتية الفعلية، غير المصطنعة وغير الحماسيّة.
داخلياً، يضرُّ الخطاب الإعلامي المتوتّر بسياق الإنتاج الإنقاذي المتبادل. سلوك خفض التوصيف والانتقال إلى التعريف، هو النافع اليوم، ومصارحة اللبنانيين بحقيقة الوضع الميداني، وبحقائق الأوضاع الداخلية، دليل مرشد إلى “أخلاق” الخطاب المرتجى، ذي الحسابات العقلانية الدقيقة. على هذا الصعيد، معارضة الحرب فعل وطني، عندما تعرض الأسباب، وخوض الحرب فعل وطني، عندما تعرض مبرّراتها. استطراداً، العارضون ليسوا جالية “عملاء”، والمقاتلون ليسوا جالية أجنبية. على هذه القاعدة، وبالانتقال إلى الصعيد الخارجي، على أولئك وهؤلاء، بذل الجهود لدى “الأصدقاء” الخارجيين، لتأمين أشكال من الدعم السياسي، والمادي، لاتقاء تداعيات الحرب ولحصر الخسائر المترتبة عليها، ولمنع تحول لبنان إلى مادة صراع بين الساعين إلى رسم الخرائط الدولية الجديدة. هذا غيضٌ من فيض السياسة، التي تقتضي عدم فرز اللبنانيين إلى محاور داخلية، تتبع محاور خارجية، مما يترتب عليه وضع الحواجز بين الداخل والداخل، وبين الداخل والخارج الذي لا غنى عنه للمشاركة في معالجة أوضاع اللبنانيين.
من السياسة إلى الميدان، وبإيجاز تقتضيه المعالجة: يجب أن يدور نقاش جاد حول إدارة القتال على الحدود، وحول الأساليب العسكرية المتبعة. مصدر الإشارة، هو إلحاح هدف تجنيب اللبنانيين الخسائر المجانية، من خلال اعتماد أساليب قتال لا تحدث خسائر ذات جدوى بساحة العدو، لكنها تستدرج ضربات تحدث أفدح الخسائر البشرية والمادية في الأرجاء اللبنانية.
في هذا الصدد، ودائماً على صعيد التحديد، من الملاحظ أن القتال على الحدود انتقل من حالة القتال على جبهة إلى حالة قتال الاشتباك السريع المتحرك، وأن الغالب على المواجهة صار التراشق الصاروخي والمدفعي والقصف الجوّي. تأكيد هذه الحالة، يعني القول إن إدامة الاشتباك صارت هي الهدف، وأن القتال من “بعيد”، بات هو الممكن، هذا يستدعي سؤال: ما هدف هذه المشاغلة من بعد؟ وما هو منتظر منها في أجلٍ قريب، أو في أجلٍ بعيد؟ الشرح مطلوب، ليكون الثمن المدفوع مبرّراً ومفهوماً، وليكون الزمن المرجّح لعمر الحرب معروفاً من قبل عموم اللبنانيين. سؤال آخر، يستدعيه واقع الاشتباك الحالي، أليس من الأجدى تركيز القصف الصاروخي على حدود الاشتباك الأمامية، حيث المواجهة المباشرة؟ وتركيز القصف أيضاً على خطوط تقدم العدو صوب الجبهة، وعلى خطوط الحركة المعادية الخلفية؟ ألا يستدعي تجنيب المدنيين اللبنانيين بعضاً من المخاطر، عدم استهداف المدنيين الإسرائيليين، والتصويب على مختلف المواقع والقواعد العسكرية لجيش الحرب الإسرائيلي؟ كما هو واضح، إن فتح النقاش من موقع المسؤولية العامة، من شأنه أن يعرض على بساط البحث الشؤون السياسية والعسكرية، ومن شأنه أن يخلق تفاهماً لبنانياً “عملياتيّاً” قد ينعكس إيجاباً على تفاهمهم السياسي الوطني، الضروري والإجباري.