مخاطر استراتيجية لاحتلال إسر…ائيل قمم جبل الشـيخ: تهديد سوريا ولبنان والأردن وممر مفتوح نحو ايرا…ن
زهير هواري – بيروت الحرية
لا يمكن قراءة احتلال إسرائيل للقمم السورية في جبل الشيخ دون الوقوف على الأبعاد الاستراتيجية لهذا الجبل الذي يحكم ويشرف على أكبر مساحة ممكنة من دول الطوق في المنطقة العربية، بل على الشرق الأوسط بأكمله. وبهذا المعنى فالاستهداف الإسرائيلي أبعد من مجرد استعمال هذا الاحتلال للضغط على السلطة الجديدة في سوريا ودفعها إلى تطبيع علاقتها معه. خصوصا وأنه ترافق مع تطور مهم تمثل في تدمير كل ما تبقى للجيش السوري من أسلحة جوية وبرية وبحرية. بما يعني ذلك من إزالة عقبة موضوعية في وجه الاختراق الإسرائيلي لعمق المنطقة العربية، والدول الإقليمية المتدخلة فيها بما هما ايران وتركيا. حتى أن بعض المحللين الاستراتيجيين يربطون ذلك مع جهوزية الاستعداد لتنفيذ الهجوم المنتظر على ايران، والذي لم يستبعده الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، تحقيقا للهدف الاسرائيلي الرئيسي، بما هو تدمير المفاعلات الذرية وغيرها من مراكز الطاقة والمؤسسات الحيوية، وبقائها الدولة الوحيدة التي تملك السلاح الذري في المنطقة.
لا يعني ذلك أن الجيش السوري في ظل حكم الأسد الأب والابن كان يشكل مصدر خطر على إسرائيل، بل العكس تماما فمنذ العام 1974 لم يطلق هذا الجيش طلقة واحدة رغم تكرار الاعتداءات على الأراضي السورية. وكانت اللازمة المكررة في البيانات الرسمية تقول “إن سوريا لن تنجر إلى معركة في التوقيت الإسرائيلي وأنها سترد في المكان والزمان المناسبين”. وقد أفادت إسرائيل من مثل هذا الوضع ومن تجاهل سلطات دمشق لوجود أراض سورية محتلة، واستثمرتها في الاستيطان والزراعة والسياحة، ورسخت احتلالها لهضبة الجولان وضمتها رسميا في العام 1981 وهو الضم الذي اعترف به الرئيس ترامب خلال عهده الأول.
واحتلال إسرائيل الجديد قمة جبل الشيخ السورية التي تعتبرها إسرائيل موقعاً استراتيجياً مهماً، ترافق مع تقدّمها في المنطقة العازلة واستيلائها عليها بالقرى التي تشغلها، وإعلان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، انهيار اتفاق فض الاشتباك الموقع عام 1974. وكأن الاتفاق هو مع عائلة الأسد لا مع الدولة السورية. ومن المعلوم أن إلغاء اتفاق فصل القوات (فض الاشتباك) تم توقيعه بين إسرائيل وسورية في 31 مايو/ أيار 1974، كدلالة على إنهاء حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وحرب الاستنزاف التي أعقبتها على الجبهة السورية. ما يعني أن إسرائيل تعيد ترسيم احتلالها لهذه المنطقة وتزيد من مساحته، مع ما يتيحه من مواقع استراتيجية على صعيد المنطقة بأسرها. ومن المعروف أنه تقرر في الاتفاقية المذكورة انسحاب إسرائيل من مناطق جبل الشيخ كافة التي احتلتها في الحرب، إضافة إلى مساحة نحو 25 كيلومتراً مربعاً تشمل محيط مدينة القنيطرة وغيرها من المناطق الصغيرة التي جرى احتلالها في حرب 5 يونيو/ حزيران 1967. وحددت الاتفاقية الحدود والترتيبات العسكرية المصاحبة لها، وتم إنشاء خطين فاصلين، الإسرائيلي (باللون الأزرق) والسوري (باللون الأحمر)، مع وجود منطقة عازلة بينهما، وعلى هذا الأساس حضرت قوات “الاندوف” التابعة للأمم المتحدة لمراقبة الوضع. ومنذ حرب 5 يونيو 1967، تحتل إسرائيل نحو 1200 كيلومتر مربع من إجمالي مساحة هضبة الجولان السورية البالغة 1800 كيلومتر مربع.
والمؤكد أن إسرائيل سعت من خلال هذا الاحتلال المتجدد إلى تحقيق جملة أهداف دفعة واحدة، مستفيدة من الفوضى السياسية التي رافقت الأيام الأخيرة لحكم بشار الأسد، وما رافقها من انسحابات نفذها الجيش السوري المرابط على جبهة الجولان وبما فيها جبل الشيخ بناءً على تعليمات الأسد، وقضت بعودته إلى محيط دمشق لحماية النظام في غضون معركة حمص. يمكن القول إن من الأهداف المباشرة لهذا الاحتلال هو وضع العاصمة السورية دمشق تحت رحمة التهديد المباشر. خصوصا وأن المسافة التي تفصل دبابات الاحتلال عنها لا تزيد عن 25 كلم، ما يعني أنها باتت تحت مرمى نيران مدفعية الميدان وأسلحة البر، ناهيك بسلاح الجو. ومعه أصبحت قدرة السلطة الجديدة على رفض الطلبات الإسرائيلية متعذرة إن لم نقل مستحيلة، سواء على صعيد تمرير الاسلحة الإيرانية لحزب الله في لبنان، أو محاولتها التصدي لسياسة التوسع الإسرائيلية التي استعادت زخمها مؤخرا، أو ما يصفه رئيس حكومتها بصياغة “الشرق الأوسط الجديد”. ولعل ما أعلنه وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس من تجهيز وحدات الجيش الإسرائيلي للإقامة خلال فصل الشتاء في قمة جبل حرمون المحتلة رغم الظروف المناخية القاسية يعبر عن إقامة مديدة على المرتفعات المذكورة. وأما مكتب نتنياهو فإضافة إلى تصريحاته السابقة حول الفراغ عند حدود إسرائيل وفي المنطقة العازلة الامر الذي يحتم وجود إسرائيل المؤقت في انتظار استتباب الأمن عند الحدود بين إسرائيل وسوريا، فقد حاول التمويه على الأهداف الاستراتيجية البعيدة لتوسع الاحتلال على قمم جبل من أكثر الجبال أهمية استراتيجية على صعيد المنطقة. وما يجدر ذكره أن الحركة الصهيونية منذ ما قبل تأسيس الدولة كانت تلح في ضمه إلى دولة اسرائيل الموعودة لما يتحلى من مميزات عسكرية وسياحية وباعتباره “أبو المياه”.
وتبدأ هيمنة قمم حرمون من لبنان القريب باعتبار أن مرتفعات جبل الشيخ تعني السيطرة على شرقي لبنان بسهولة فائقة وعزل الجنوب عن البقاع. والأبعد من لبنان هو الأردن الذي تشكل منطقة الجولان ومرتفعاتها احدى المداخل المتاحة لتهديد خاصرته الرخوة من خلال طرقات منطقة جنوب سوريا في درعا والقنيطرة المحاذية له والسالكة أمام مدرعات الاحتلال. وبالطبع فتهديد الاردن يحقق هدفا مزدوجا يتعلق أولهما بالوضع في الضفة الغربية، واعتبار المشاريع التوسعية الإسرائيلية الضفة الشرقية هي دولة فلسطين، كون الضفة الغربية هي يهودا والسامرة، أي أنها في أصل الأسطورة التوراتية الموعودة، خصوصا إذا ما تحقق تنفيذ التهجير- “الترانسفير” من الضفة الغربية كما يخطط ويشتهي قادة إسرائيل من اليمين الصهيوني الديني وغير الديني. أما الهدف الثاني فيتمثل في كون الأردن بمثابة المحطة الثانية بعد سوريا في الممر إلى ايران على حد تعبير الفيلم الوثائقي الذي أصدره الجيش الإسرائيلي بعنوان “الممر مفتوح إلى ايران” حول الطريق التي ستسلكها قواه الجوية للوصول إلى ايران من خلال العبور في الأردن ثم العراق. وعليه تصبح ميليشيا الحشد الشعبي في دائرة الاستهداف المباشر اذا ما واصلت تنفيذ تعليمات الحرس الثوري الايراني وممارسة توجيه المسيرات والصواريخ نحو إسرائيل. بهذا المعنى يمكن القول إن الأهداف الإسرائيلية تنطلق من سوريا، لكنها تتجاوزها لتشمل لبنان والضفة الغربية والأردن والعراق وايران. أي أن هذا الاحتلال الذي أقرته كابينت الحرب في إسرائيل ينطلق من جملة أهداف تتعلق بخارطة المنطقة بأسرها ودور إسرائيل في صفقة القرن كقائدة للقوة الإقليمية الجوية المكلفة حراسة الدور الاميركي المهيمن من أي تدخل خارجي منافس. والفعلي أيضا أن إسرائيل تتصرف على أن الجولان بات بمثابة أرض إسرائيلية، خالصة، وليس منطقة سورية محتلة بشهادة من الرئيس الأميركي العائد إلى البيت الأبيض الذي أشفق على الكيان الإسرائيلي حدوده الصغيرة. وأيضاً تقود عملية التوسع إلى زيادة أرصدة دولة الاحتلال في حال حدوث مفاوضات مع السلطة الجديدة في سوريا، وهي سلطة جرى قلع أظافر ما كان يمكن أن ترثه عن النظام البائد من أعتدة عسكرية في حال اعتزمت المواجهة.
ضمن هذا السياق تدخل في الحسبان عملية تدمير تجهيزات وعتاد الجيش السوري بأكمله بواسطة واحدة من أكبر العمليات العسكرية التي شهدتها المنطقة بما فيها حرب الأيام الستة في العام 1967، ففي غضون يومين قام سلاح الجو في الجيش الإسرائيلي بمئات الغارات التي شملت كامل مساحة سوريا شرقا وغربا وجنوبا وشمالا واستعمل خلالها 1800 نوع من الذخائر، ودمر بواسطتها المطارات بما فيها من مدارج ومهاجع طائرات حربية وعامودية ومستودعات الأسلحة والبنية التحتية العسكرية ومواقع الرادارات والمراقبة العسكرية ومراكز الأبحاث وكل ما يمت للجيش والقوات العسكرية بصلة، أي أن ما يفوق نسبة الـ 80 % مما كانت تمتلكه سوريا من أعتدة راكمتها منذ حرب حزيران العام 1967 قد تمت ابادته. أما سلاح البحرية الإسرائيلي فقد تكفل بالأعتدة والذخائر بما فيها من غواصات وصواريخ بحر – بحر وبحر جو في ميناء اللاذقية وغيره على سواحل سورية الغربية.
اختصارا يمكن القول أن عملية طوفان الأقصى شكلت درسا قاسيا لاسرائيلي، ودفعتها لاعادة اعتماد سياسة الحرب الاستباقية في عقيدتها الحربية، بما هي تحديث لنظرية “الحرب بين المعارك” و”جز العشب” التقليدية التي طالما مارستها. وحولت الفشل إلى عكس نتائجه، من خلال تدمير عمران ومقومات مجتمع الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة، مرورا بما عاناه لبنان من غارات وهجمات، وصولا إلى تدمير مقدرات جيش سوريا على نحو كامل. إذ تخشى إسرائيل من عودة ظهور حال من عدم الاستقرار فيها، أو وقوع هذه الاعتدة في ايد معاكسة لما فعله الأسدان الأب والابن من تعايش وسكينة مع الاحتلال، دون إزعاجه ولو على نحو بسيط. وعليه، قررت أن تحتاط لذلك من خلال احتلال مساحات إضافية من الأراضي السورية وتدمير مقومات ومقدرات الجيش ما لا يمكن استعادة بعضه خلال عقود من السنين. كذلك يمكن لها أن تقايض انسحابها من هذه المساحات المضافة حديثا بالاعتراف بضم هضبة الجولان السوري المحتلة منذ العام 1967 لها . وفي هذا كله تستطيع ترتيب وضع المنطقة كما تشاء، وبما يتجاوز البطش بقطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والأردن إلى دوائر المنطقة البعيدة عن كيانها. من هنا تبادر إسرائيل إلى شن ضربات استباقية لمنع ظهور ما يمكن أن يحمل مخاطر مستقبلية. وهو ما بات بمثابة أحد مقومات العقيدة العسكرية التي يكرسها نتنياهو وفريقه السياسي – العسكري، والذي يتم تنفيذه دون أكلاف تذكر، ما دامت تملك التفوق الجوي والتقني كما ثبت ذلك على سائر جبهات الحرب التي لم تنته حتى الآن.
خلاصة القول، إن إسرائيل التي تعايشت مع آل الأسد عقودا طويلة، قررت ألا تأمن احتمالات المستقبل. لذلك، إضافة إلى ما مارسته من حروب مكشوفة لن تتورع عن العمل بكل ما تملك على تفجير المجتمعات العربية وزعزعة ما تبقى من كيانات وهياكل ومؤسسات موروثة من الدول المتهالكة، باعتباره ضمانة إخضاع المنطقة لجبروتها بغطاء أميركي، تحت ذريعة التخلص من المحور الإيراني وأذرعه، بينما المشروع الفعلي هو إعادة احتلال المنطقة بأشكال تتلاءم مع ممارسات عصر الإبادة العنصرية والذكاء الاصطناعي وما بينهما.