قراءة في أوامر محكمة العدل الدولية
محمد الرميحي
تتعدد القراءات والتفسيرات لأوامر محكمة العدل الدولية التي صدرت يوم الجمعة الماضي تجاه القضية المرفوعة من جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل تعدداً طبيعياً، فأي من له خبره بكتابة النصوص، سواء أكانت قانونية أم سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، يعرف أن فهم هذه النصوص وتفسيرها قد يكونان تقريباً بعدد قرائها، وهكذا قرأنا وسمعنا في الأيام القليلة من متخصصين أو صحافيين أو مراقبين الكثير من التفسيرات لنص واحد، في التفسير العربي للنصوص الصادرة تعامل معها البعض على طريقة (ويل للمصلين) فرفع بعض فقراتها إلى أعلى، وتجاهل فقرات أخرى، كما أن تلك الأوامر ليست قانونية بحتة، بل فيها شيء من السياسة.
أوامر المحكمة يمكن أن تفسر بعدد من النقاط منها:
1- أقرت المحكمة بأنها مختصة بالموضوع المطروح وهو شكوى جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، متهمة إياها بأنها قامت بأعمال إبادة جماعية بحسب النصوص في القانون الدولي، وهذا أمر يحسب انتصاراً لجمهورية جنوب أفريقيا، كما هو انتصار للقضية. في التجارب الأخرى لم تصل أي شكوى ضد إسرائيل في هذه المحكمة أو غيرها من المؤسسات الدولية إلى هذا المستوى، كانت إسرائيل على شنيع فعلها “امرأة قيصر” لدى الدول الوازنة، وما ساعد على وصول الشكوى، أولاً الشواهد التي قدمتها جمهورية جنوب أفريقيا، وثانياً ما يشاهده العالم من إبادة على شاشاته كل يوم حياً وطازجاً، مصاحباً بكمّ من الوقاحة في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تنم عن نازية جديدة.
2- رفض المحكمة من حيث المبدأ الدفاع الإسرائيلي غير المقنع لأعضاء المحكمة، وشابه الكثير من المبالغة والخروج عن الملف المعروض.
3- هذه الأوامر التي أصدرتها المحكمة والتي هي في العاجل كما رأت، لن تكون من دون مراجعة، فقد أمهلت إسرائيل لفترة شهر لترد على التهم التي أقرت، وبعد الرد تقوم حكومة جمهورية جنوب أفريقيا بقراءة الرد وتقديم ملاحظتها عليه وتفنيد ما يلزم تفنيده، أي أنها وضعت إسرائيل معنوياً تحت الوصاية لمدة شهرين والوصي هو حكومة جنوب أفريقيا، وعلى الأخيرة عمل قانوني وسياسي كبير يحتاج إلى إعانة من الفلسطينيين.
4- ومن ثم ضم الملف الذي سوف تقدمه جنوب أفريقيا تعليقاً على رد إسرائيل إلى أوراق القضية التي سوف تأخذ وقتاً لإصدار حكم نهائي فيها، يقول بعض الخبراء إنه قد يأخذ سنوات.
5- لم تأمر المحكمة بوقف إطلاق النار، ما فسره البعض بأنها سمحت باستمرار القتال، ولكن بضوابط القانون الدولي، وبعض الخبراء يرون أن المعركة هي بين تنظيم سياسي ودولة، وهذا يمنعها من إصدار أمر بوقف إطلاق النار، ولكن إن تم ما أمرت به المحكمة في هذا الملف، فسوف يقلص الأعمال العسكرية الإسرائيلية ويقلل من الضحايا المدنيين، ولكن لن يوقف القتال أو يرفع الحصار عن مواد تعتبر، من وجهة نظر إسرائيل، مواد حربية، أي يمكن استخدامها في المعارك، مع السماح بشكل أفضل بمرور ما يحتاجه الناس لمعيشتهم، هذا إن امتثلت إسرائيل لأوامر المحكمة. في هذه الجزئية يمكن للرقابة الإسرائيلية أن تقرر ما هو المسموح به وما هو الممنوع مما يحتاجه الشعب الفلسطيني في غزة أو لا يحتاجه!!
6- أمرت المحكمة “حماس” بالإفراج فوراً عن المعتقلين الإسرائيليين، حتى من دون مبادلتهم بمعتقلين فلسطينيين، هو أمر سياسي وليس قضائياً، لأن “حماس” ليست دولة ولا هي طرف في النزاع قانوناً، وإن تم ذلك فسوف يضعف الموقف الفلسطيني، إلا أن “حماس” في موقف أخلاقي غير مريح، فإن استجابت له خسرت أوراقاً تفاوضية، وإن لم تستجب خسرت تعاطف بعض أعضاء المحكمة على الأقل، وربما جزءاً من الرأي العام العالمي، هذه النقطة سكت عنها معظم الإعلام العربي، ولكنها موجودة في نص الأوامر ومن الخطأ تجاهلها.
7- ما ذهبت إليه المحكمة يتطابق جزئياً مع الرؤية المعلنة للولايات المتحدة، وقد عبرت عنها في الكثير من التصريحات، وهو الاشتباك في حدود قواعد القانون الدولي، وتجنب ضحايا مدنيين ما أمكن، وأيضاً إطلاق سراح الأسرى.
8- فرنسا تطالب بوقف إطلاق النار، وربما يكون ذلك منسجماً مع مطالب الاتحاد الأوروبي بوقف إطلاق النار الفوري وإدخال المساعدات الإنسانية، إلا أن تلك المطالب لم تُرفق بقرارات تضر إسرائيل حتى الآن.
9- المحكمة سوف تستمر في النظر في الدعوى ضد إسرائيل، مع البحث عن عناصر محققة في إثبات النية لدى إسرائيل لتنفيذ سياسة الإبادة الجماعية.
10- أوامر المحكمة لا شك وضعت إسرائيل في “ماء بارد” وحققت ضدها هزيمة معنوية، بخاصة أن الاضطراب وعدم الانضباط في الأسابيع الأولى والتصريحات الفاشية من عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، كلها تقود إلى نية الإبادة الجماعية.
11- أوامر المحكمة دفعت الولايات المتحدة ودولاً غربية أخرى، بضغط إسرائيلي، إلى إيقاف المساعدات المالية لمؤسسة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بسبب ضغط وادعاء إسرائيلي أن بعض منتسبيها يساعد “حماس”! كما اشتبكت إسرائيل مع منظمة الصحة العالمية، بل مع الأمم المتحدة، بخاصة بعد تصريحات الأمين العام الشاجبة للأعمال العسكرية الإسرائيلية، ما يضع إسرائيل في مواجهة مع عدد من المنظمات الدولية، ويضيّق عليها الخناق المعنوي، ولكن أيضاً يحرم الأونروا من تقديم خدمات لشريحة كبيرة من الفلسطينيين هم في أمسّ الحاجة إليها.
12- هناك اليوم 132 محتجزاً إسرائيلياً، وقد قتل 28 من المحتجزين بسبب غارات إسرائيلية أو أسباب أخرى، ويتصاعد ضغط أهاليهم ومناصريهم على الحكومة الإسرائيلية التي يبدو أنها قررت أن يكون ملف الأسرى ثانوياً، أو أن يُحرروا بالقوة، وهو ملف له أهمية من الجانب الفلسطيني، لذا فإن التعامل معه بحذق مطلوب، وليس بعاطفة.
13- الحقيقة على الأرض أن مدن غزة باتت أشبه اليوم بخرائب، وأن أهل غزة يطارَدون في العراء، وهم في الغالب المجموعة البشرية المهملة في الصراع، ومعاناتهم تفوق أي قدرة احتمال للبشر، والطريق السليم هو التفكير السياسي الذي ينقل الملف من العاطفة والشعارات، إلى الحسابات السياسية الباردة.
14- كل ما تقدم من دعم معنوي للقضية من محكمة العدل، إن لم يقابَل من قبل فريق فلسطيني قانوني بملف موثق واضح بالأدلة إلى قيام إسرائيل بإبادة جماعية، كمثل الاعتداء على المشافي من دون وجود عناصر من “حماس” والمدارس ودور العبادة، ويقدم إلى حكومة جمهورية جنوب أفريقيا لمساعدتها قانونياً، فإن مرور الزمن قد يفقد بعض تلك الأوامر زخمها، بخاصة في مرحلة انحسار للدعم الدولي، إما بسبب الانتخابات الداخلية في عدد من بلدان الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، أو بسبب أعمال الحوثي في البحر الأحمر التي تزيد من التضييق الاقتصادي على الجمهور الغربي.
تلك قراءة عامة للمشهد الدائم التحول ….