خبر عاجلفسحة ثقافةفن
صباح فخري المقيم في منزلي
صباح فخري المقيم في منزلي
صباح فخري في بيوتي منذ ثلاثين عامًا بشكل دائم. كان قبلها يزورني بشكل متقطع. اليوم صحوت من نومي على خبر موته. لم أحتج إلى هذا الخبر لأسمعه فأحييه. كان مساء أمس يرافقني في رحلتي على ضفاف النهر.
لو نجحنا نظريًا في شرح أسلوب صباح فخري في الغناء، وتحديد قدرات صوته، وعمق ثقافة حنجرته، فإننا نفشل دائمًا في نقل السحر الذي يكتنف كل نأمة تصدرها حنجرته.
المطربون، نحبهم كثيرًا لأنهم يصنعون منا أشخاصًا خارقين. المطرب لا يموت، يبقى بيننا رغمًا عنه، ورغما عنا، لأننا ما إن نتذكره نحييه. بين أنواع الفنون المتنوعة والكثيرة، ليس ثمة أقرب للمرء من المطربين. صباح فخري ليس المقيم الوحيد في بيوتي، غيره كثر. لكن هؤلاء المقيمين جميعًا هم من بين الذين لم أستطع بعد أن أكونهم. أن أتجاوزهم إذا شئت الدقة. كل يوم أحاول ما أمكنني أن أوازي صوت صباح فخري بصوتي، وهو ينشد “اسق العطاش”. وكل يوم أكتشف أنه يتجاوزني على نحو لا قبل لي بردم فجوته. في العادة، حين يكون المطرب محدود القدرات، تتجاوزه بسهولة، تغني معه، وتشعر أنك غلبته. مع صباح فخري، وقليلين آخرين، لا يبدو هذا ممكنًا، حتى للمتمرسين بالغناء. لن يستطيع جورج وسوف تجاوز صباح فخري، وما كان صباح فخري قادرًا على تجاوز جورج وسوف. الواحد من هؤلاء، بخلاف البشر والفنانين الآخرين، لا يكف عن إظهار صورته نفسها. لا يبدل فيها إلا لمامًا، لكن هذه الصورة تبدو للمستمع كاملة. لا يُمل منها ولا يمكن إدراك كنهها وفكفكتها. حتى لو نجحنا نظريًا في شرح أسلوب صباح فخري في الغناء، وتحديد قدرات صوته، وعمق ثقافة حنجرته، فإننا نفشل دائمًا في نقل السحر الذي يكتنف كل نأمة تصدرها حنجرته. لكنك، وأنت المستمع الضئيل تدرك أنك تملكه تمامًا. يكفي أن تصدر الآه من حنجرتك وأنت تستمع إليه لكي تأسره في مخيلتك وروحك. وسيبقى مطيعًا لبهجتك طوال الزمان.
نحن ندين للتقنيات الحديثة بالكثير. قبل التطور الذي شهدناه في صناعة آلات التسجيل، كان المطرب يموت ويموت معه صوته. حتى صالح عبد الحي لم يعد حيًا بيننا، لأنه لم يكن معاصرًا لهذه التقنيات. علينا أن نشكر هذه التقنيات صبحًا ومساءً، لأنها مكنتنا من إحياء مطربينا كل يوم. لا يضير هذه التقنيات أنها نشرت الكثير من الغثاثة حول آذاننا، إذ يكفي أنها مكنتنا من إبقاء صوت مثل صوت صباح فخري صادحًا.
نحن ندين للتقنيات الحديثة بالكثير. قبل التطور الذي شهدناه في صناعة آلات التسجيل، كان المطرب يموت ويموت معه صوته.
هل يحزن المرء لأن شخصًا مثل صباح فخري غاب عن دنيانا؟ لا أدري في حقيقة الأمر. الموت شأن بالغ التعقيد. وأخلاقيًا يجدر بنا أن نحزن لأي خسارة بشرية. مع ذلك، ها أنا أضبط نفسي غير متأثر بموت الرجل الذي لطالما أحببته. ذلك أنني على وجه من الوجوه ما زلت أراه حيًا وصادحًا. هذا اليوم سيمر أيضًا كأي يوم آخر، لا حزن ولا شجن. ثمة ما يجلو “صدى قلبي بصفو محبة” وسأكرر هذا الجلاء كل صباح.