المرحلة الجديدة ومواجهة معضلات الانقسام اللبناني
كتب زكي طه في بيروت الحرية
شكَّل التصويت لاعطاء الحكومة ثقة المجلس النيابي، اختتام المسار الدستوري الانتقالي، وكرّس دخول لبنان مرحلة جديدة. استغرق الأمر أشهراً ثلاثة، بدأت مع قرار وقف اطلاق النار، من خلال انتخاب رئيس الجمهورية ومشاورات التكليف وتأليف الحكومة، وإعداد البيان الوزاري ومناقشته، قبل إعطاء الحكومة الثقة على اساسه. وهي الاستحقاقات التي كشفت حدود قدرة أحزاب السلطة على التفلت من أحكام الضغوط الخارجية، بقدر ما فضحت خضوعها الاضطراري لها. أتت الضغوط على رافعة النتائج التدميرية للحرب الاسرائيلية على لبنان والمنطقة، والتي لم تزل تتوالى فصولاً على سائر الجبهات. يؤكد ذلك لبنانياً رفض جيش الاحتلال الانسحاب وفق بنود الاتفاق حول وقف اطلاق النار وتنفيذ القرار 1701، واستمرار الاعتداءات اليومية على لبنان، بالتزامن مع التهديدات باستئناف الحرب، وبالتوازي مع تكاثر مشاريع التهجير وضم الاراضي والمناطق العازلة المدمرة والخالية من السكان شمال الحدود الجنوبية من لبنان وسورياً مع كيان العدو.
في المقابل فإن كم المعارك السياسية بين قوى السلطة وأحزابها، والعسر الشديد الذي رافق مسار الاستحقاقات الدستورية، أكد عمق أزمة البلد ومأزق اصحاب المشاريع الطائفية والفئوية. وعكس أيضاً استعداد تلك القوى الدائم للدفاع عن مواقعها في السلطة دون هوادة. ورغم الانكفاء النسبي، فقد اشرت ممارساتها، إلى جهوزيتها للارتداد عندما تسنح لها الفرصة، عما سبق ووافقت عليه بقوة الامر القاهر. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تسارع لإعادة ترتيب أوضاعها على النحو الذي يمكنها من التعامل مع أحكام المرحلة الجديدة، لحماية مكتسباتها المتحققة، وتوظيف ما هو متاح لها من الامكانات والوسائل بما فيها الاستقواء بالخارج.
وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يسعى كل طرف لإعادة جلاء موقعه وتظهير عناصر قوته. هذا ما أكدته جولات الصراع مع الرئيس المكلف لتثبيت موقع الشراكة في الحكومة، عبر تقاسم الوزارات وتسمية الوزراء. وفي امتداد ذلك، سارع قائد القوات اللبنانية للاجتماع مع الوزراء الذين صُنفوا من حصتها لتزويدهم بتوجيهاته، من موقع ادعاء الشراكة مع العهد عبر الحكومة. وفي موازاة ذلك كان تصعيد السجال حول مضمون البيان الوزاري والتلويح بالشروط والشروط المضادة حول صياغة الموقف من سلاح المقاومة. وتكررت مواقف قيادات حزب الله وحركة أمل التي تجاهلت ما وافقت عليه من بنود تنص على إنهاء وجود السلاح في كل لبنان، ومن شروط تنال من السيادة اللبنانية في اطار موافقتها على آلية تنفيذ القرار 1701. وصولاً إلى محاولة ربط مصير السلاح بالحوار. ما يعني العودة إلى مناقشة مبدأ حصرية حق الدولة في احتكار امتلاك واستعمال السلاح في لبنان كما هو الحال في سائر دول العالم.
دلالات التشييع المتأخر
وفي هذا الاطار كان التشييع المتأخر للأمينين العامين لحزب الله، الشهيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، اللذين اغتالهما العدو الاسرائيلي في سياق حربه على لبنان، والتي سقط فيها آلاف الشهداء والجرحى من القادة والمقاتلين والمواطنين. وهو التشييع الذي اراده الحزب مناسبة لتأكيد حضوره ودوره وعلاقته ببيئته الحاضنة، باعتباره الحزب الذي يعبر عن وجدان الطائفة الشيعية وتطلعاتها وطموحاتها الدينية والدنيوية في آن. وبهدف الرد على الشكوك والاسئلة التي تكاثرت، حول أوضاع الحزب، في ضوء نتائج الحرب الاسرائيلية المدمرة، وما ترتب عليها وعنها من خسائر فادحة.
ولا ينال من أهمية حدث التشييع، ما تضمنه خطاب الامين العام من شعارات عالية النبرة، ومن مواقف تحمل الكثير من الالتباسات التي تبقيها وإلى أمد طويل موضع نقاش وجدل. لأنها وبالقدر الذي تشكل امتداداً لما سبقها طوال عقود، إلا أنها تنطوي أيضاً وهو الأهم، على قبول ضمني بأحكام المرحلة الجديدة التي آلت إليها أوضاع الحزب والبلد والمنطقة في آن. وتقبل الاحتكام إلى قوانين وآليات الصراع التي تتيحها موازين القوى الدولية والاقليمية والمحلية الراهنة. ما يعني عدم تسليم الحزب بما يريده خصومه في السلطة، بل انتظار المستجدات وتبدل الأوضاع.
صحيح أن امين عام الحزب أعلن أن لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه، وأعرب عن الاستعداد للمشاركة في إعادة بناء الدولة القوية والقادرة. لكنه أعفى حزبه من قسطه الكبير من المسؤولية عما آلت إليه اوضاع البلد، وعن التفريط بإنجاز التحرير غير المشروط من الاحتلال. وكذلك عن مساهماته الكبرى في تزخيم الانقسامات الاهلية وما رافق ممارساته من تخوين للآخر.. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن يحيل التعامل مع أعباء القضية الوطنية، بما فيها إعادة الاعمار على الدولة، ومطالبتها بمواجهة العدو الاسرائيلي واهدافه وعدوانيته والتصدي لرفضه الانسحاب حتى الحدود الدولية. غير أنه في المقابل حجز موقع ودور للمقاومة وفق ما تراه مناسباً ومفيداً، باعتبارها قوة الحماية الرئيسية للبلد. ولذلك فإنه لا يقبل المساس بها وبمقوماتها. كما يرفض البحث في مبدأ وجودها خارج اطار الدولة، وعليه يشدد على أهمية وضرورة بقائها والمحافظة عليها. وفي ذلك ما يؤشر إلى إمكانية الارتداد على دستور واتفاق الطائف الذي أعلن القبول به، من خلال المطالبة بالعودة إلى طاولة الحوار للبحث عن حل لمعضلة سلاحه، ومناقشة حق الدولة في احتكار قرار الحرب والسلم وحق امتلاك واستخدام السلاح. وهو في ذلك يتنكر للاتفاق المتعلق بتنفيذ القرار 1701 الذي أعلن موافقته عليه قبل دخوله حيز النفاذ. وقد فاته أن ما يدعو له يتعارض مع المصلحة الوطنية اللبنانية، بالقدر الذي يمكّن العدو الاسرائيلي من استغلاله لتبرير وتغطية عدوانه المستمر على لبنان.
حزب الله وايران والمستقبل
وبعيداً عن الارقام، فقد حقق التشييع الحاشد وغير المسبوق في تاريخ البلد، الاهداف الآنية المرجوة منه، لناحية تكريس موقع ودور الامين العام، وأكد وحدة قيادة الحزب وعلاقته بجمهوره وبيئته، وثبّت ارتباطه بمرجعيته السياسية والدينية المتمثلة بالنظام الايراني، التي جدد ممثلوها في التشييع، ربط دعمها للبنان بإجماع ما، تتوافق عليه مؤسساته الدستورية والمقاومة التي يتولاها حزب الله بعلاقاته معه. الامر الذي يتناقض مع مشروع إعادة بناء الدولة التي صادرت المقاومة قرارها ودورها وصلاحياتها. وعلى ذلك فإن حدث التشييع وما رافقه من شعارات ومواقف، جرى إعادة تأكيده ثانية من خلال مساهمة الحزب في مناقشة البيان الوزاري التي لا يبدل من طبيعتها منح الحكومة الثقة باعتباره شريك فيها.
وفي موازاة الاستحقات الدستورية المتلاحقة، لم يفوِّت رئيس وقادة تيار المستقبل ذكرى اغتيال رئيس الحكومة الاسبق الشهيد رفيق الحريري، وفرصة استغلال المتغيرات الاقليمية والمحلية، لتجديد حضور التيار والسعي لإعادة تنظيم صفوفه، ومحاولة تعويض الخسائر الفادحة التي نالت من دوره، في أعقاب تقديم رئيسه استقالة حكومته، وفشله في تشكيل بديل عنها ومغادرته البلد، وصولاً إلى قرار عدم المشاركة في الانتخابات النيابية. وهي الخسائر التي لا يعوضها الحشد الذي جمعته الذكرى، والباحث عن زعامة مفقودة لم ولن يجدها في المكلفين بإدارة شؤون التيار، في ظل عدم عودة رئيسه للاستقرار في البلد.
مناقشات النواب وتباين المواقف
من الوضح ورغم اتساع مساحة الثقة المعطاة للحكومة، إلا أن مناقشات المجلس النيابي، أكدت اختلاف الرؤى للمرحلة الجديدة، وعكست تباين المواقف من قضايا البلد وأزماته المتعددة. وظهّرت أيضاً حجم الصعوبات والتحديات التي يواجهها البلد ومعه العهد والحكومة، سواء على صعيد القضية الوطنية ومواجهة العدو الاسرائيلي وسياساته وشروطه، ومعالجة معضلة الوضع في الجنوب في ضوء قرار العدو الاحتفاظ بالعديد من المواقع العسكرية داخل الأراضي اللبنانية ورفض الانسحاب منها. أو في ميدان إعادة بناء الدولة وقضايا الاصلاح والاعمار والنهوض الاقتصادي، التي لا يفيد فيها الاعتماد فقط على الدعم الخارجي المشروط، او الركون الى ثقة القوى والتيارات الطائفية والفئوية المشاركة في الحكومة وهي المسؤولة عما آلت إليه اوضاع البلد.
وما يفاقم الصعوبات عدم انتظام الحياة السياسية في البلد في ضوء تفكك وتشرذم مجموعات وقوى المعارضة ونواب التغيير، وهي المطالبَة اليوم بأن تعيد النظر بأدائها، وأن تراجع تجاربها، مدخلاً لإعادة الانتساب إلى أزمات البلد التي لا تحصى، والعمل في سبيل تشكيل وبناء جبهة معارضة ديمقراطية تعددية ذات بُعد اجتماعي عابر للطوائف والمناطق، بديلاًعن اطلاق الشعارات، وتصدير البيانات غير القابلة للصرف.