المرحلة الثانية غير مضمونة إسر..ائيل نحو تجديد «المعركة بين الحروب»؟
يحيى دبوق
كشف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن آماله ونيّاته لليوم الذي يلي تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة؛ إذ قال، في رسالة متلفزة هنّأ فيها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إنه «يتطلّع إلى العمل سويًّا من أجل تدمير القدرات العسكرية لحماس، وإنهاء حكمها في غزة». وإذا كان كلامه إقراراً غير مباشر بفشل حربه التي دامت أكثر من 15 شهراً، إلا أنه كشف في الموازاة عن تطلّعاته: استئناف الحرب، وإنِ اشترط للعودة إليها رضى ترامب ومشاركته فيها. ويتقاطع ذلك مع شكوك أثيرت في إسرائيل حول إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار، نتيجة خيبة الأمل ممّا حقّقته الحرب نفسها، فضلاً عن التأثيرات السلبية للاتفاق على أمن إسرائيل، وعلى أهدافها المعلَنة من القتال. ووفقاً لتعبيرات البعض، فإن فرص فشل الصفقة أكبر من فرص نجاحها، سواء في مرحلتها الأولى أو الثانية، فيما ثمّة مِن بين المشكّكين مَن يرجّح أن لا يتوصّل الطرفان إلى اتفاق على المرحلة الثانية، لأن في متنها ما يحول دون التفاهم على بنودها.
وكانت الحكومة الإسرائيلية، وتحديداً مكتب رئيسها، قد رفضت نشر ملاحق الاتفاق التي وقّعت عليها تل أبيب، سواء ما يتعلّق منها بمحور «فيلادلفيا» أو المساعدات الإنسانية التي بدأت دخول القطاع، أو ما يتّصل بالالتزامات الأمنية المدرجة في هذه الملاحق، علماً أن جزءاً منها نُشر خارج إسرائيل وعاد وتسرّب إلى إعلامها، نقلاً عن مصادر أجنبية. فهل في الملاحق ما يحرج صاحب القرار في تل أبيب، فيما هو يحاول إبعاد التبعات السلبية والانتقادات في مدة تنفيذ الاتفاق، أو أنه يخفي ما لا يريد الالتزام به؟ الحجة الرئيسية لرفض النشر، كما قالت مصادر أمنية وسياسية إسرائيلية، هي احتمال الإضرار بأمن إسرائيل، وإنْ كانت حركة «حماس» – وهنا المفارقة – هي الطرف الآخر الموقّع على الاتفاق وعلى ملاحقه، عبر طرف ثالث.
وللمتشكّكين قراءتهم الخاصة؛ إذ يتعذّر عليهم قبول نتيجة الاتفاق وتبعاته السيئة على إسرائيل، وتحديداً على المدى الطويل، الأمر الذي يدفع هؤلاء إلى التقدير بأن تل أبيب ستستأنف الحرب لاحقاً، بغض النظر عن الأسباب المباشرة التي ستعيدها إلى القتال، علماً أن التقديرات تشير إلى احتمال فشل «حماس» في تنفيذ جزء من التزاماتها، ولا سيما تسليم إسرائيل كلّ جثث أسراها ممَّن قتلوا في الحرب وفُقدت آثارهم ولم تَعُد الحركة قادرة على تتبُّع أماكن وجودهم. وإذا قبل العدو ضمن الخيارات المتاحة لديه – أو أُجبر على قبول -، المضيّ قُدماً في بلورة المرحلة الثانية من الاتفاق، فسيكون كـ«مَن يطلق النار على نفسه»، وفقاً لقراءة المشكّكين، خاصة أن المرحلة الثانية تتضمّن تحقيق كل أهداف «حماس» وتمكينها نسبيًّا من العودة إلى ما كانت عليه قبل أكتوبر 2023: وقف الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع واستعادة أسرى فلسطينيين «وازنين» ينتظر أن يقودوا إلى جانب القيادة الحالية عملية ترميم قدرات الحركة واستكمال السيطرة المدنية والعسكرية على غزة، فيما تنهي عودة أكثر من مليون فلسطيني إلى المنطقة الشمالية خططاً ومشاريع إسرائيلية كانت على وشك التحقُّق، من بينها، في حدّ أدنى، منع تشكُّل تهديدات أمنية على مستوطنات «غلاف غزة» شبيهة بعملية «طوفان الأقصى»؛ وفي حدّ أعلى، «تطهير» المنطقة من الفلسطينيين تمهيداً للاستيطان فيها وضمّها لاحقاً، وفقاً لما كان يدفع إليه اليمين المتطرّف.
ثمّة بين المشكّكين مَن يرجّح أن لا يتوصّل الطرفان إلى اتفاق على المرحلة الثانية
ولا يتركّز الرأي «التشكيكي» فحسب على رغبات وتمنّيات، إذ يمكن لحظه لدى جهات وشخصيات وازنة في إسرائيل. فوفقاً لرئيس «مركز أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، اللواء تامير هايمن: «هناك احتمالات كبيرة بأن يكون الاتفاق جزئيًّا فقط، ومن الضروري الاستعداد من الآن، سواء في الجانب الأمني أو الإستراتيجي، لليوم الذي يظهر أن الاتفاق لن يُنفّذ بالكامل». ويضيف: «يجب على إسرائيل أن تصوغ قراراً في شأن الوضع النهائي المرغوب فيه والصحيح للحرب، وإذا لم يتمّ التخطيط لليوم الذي يلي من الآن، فلن تكون هناك نهاية للحرب. وإذا لم تلتزم إسرائيل بالخطّة الأصلية، أي استبدال حماس بإدارة مدنية في القطاع، فلن يتحقّق هدف الحرب». لكن هل يسمح الجيش والأجهزة الأمنية في إسرائيل، بخيار استئناف القتال؟ وماذا عن الجمهور الإسرائيلي؟ هل يسمح لسياسييه بالعودة إلى حرب ثبت أنها عقيمة وذات أثمان ثقيلة، رغم وجود رغبة لدى عموم الإسرائيليين في استمرار الانتقام والقتل؟ وماذا عن الشركاء الإقليميين، وإنْ كانوا في أدنى سلّم روافع الضغط على إسرائيل؟ والأهم ماذا عن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب؟ وهل سيسمح باستئناف الحرب إذا اصطدم الطرفان بصعوبة تنفيذ التزاماتهما كاملة؟ ثمة شكّ معتدّ به هنا.
وهكذا، فإن تجاذب إسرائيل بين خيبة الأمل من نتائج الحرب التي لم تحقّق أهدفها، وبين خيبة مبنيّة على أن تل أبيب فوّتت على نفسها فرصة كانت مواتية، وإنْ نظريًّا، لتحسين وضعية المشروع الصهيوني في الأراضي المحتلة، وفقاً لرؤية فاشيّي اليمين المتطرّف، ينعكس في اتجاهاته المختلفة تعبيرات ورؤى وتطلعات لا تتّفق مع الواقع. وعلى أي حال، أثبتت الحرب، رغم ضراوتها وطول أمدها، أنه لا يمكن إنهاء المقاومة الفلسطينية عبر وسائل عسكرية وأمنية، الأمر الذي يعني عودة نظرية «المعركة بين الحروب» لتفرض نفسها على المقاربة الإسرائيلية؛ وكل ذلك في انتظار الجولة المقبلة من القتال، والتي يريد البعض في الكيان أن يكون موعدها سريعاً، في استعجال إنما يعبّر عن الإحباط وصعوبة تفهّم الفشل في تحقيق الأهداف.