كتب أسامة القادري في نداء الوطن
يتّجه المجتمع اللبناني مع تمادي الجوائح الصحّية والاقتصادية والأمنية الى التفكّك الأسري، نتيجة إستفحال الازمات وعجز المنظومة السياسية عن المعالجة، واستمرارها بالإختباء خلف الفشل وعنادها بالمحاصصة، لترتكب جريمتها بضرب الأسرة، آخر ما تبقّى للمواطن اللبناني. يأتي ذلك كأخطر أنواع التدمير المجتمعي لأنّه يُعمّق هوة الانهيار، ويولّد انتكاسات اجتماعية تؤدي الى ارتفاع نسبة الطلاق والمشاكل الأسرية وتشرّد الأطفال وتضرب الوعي عند جيل المستقبل.
فلا يختلف اثنان على أنّ النظام المجتمعي والكينونة الأسرية يعيشان اليوم تخبّطاً وتدهوراً، بعد انهيار أنظمة الدعم الإجتماعي التقليدية واختلالها الوظيفي، ما يعني أنّ لبنان دخل المرحلة الأخطر في تحلّل الدولة، بعدما مزّقت الازمات الصحّية والسياسية والاقتصادية والامنية الاقتصاد الوطني، وضربت الأمن والأمان المجتمعي ليأتي انقضاضها على الأسرة. فلم يكفِ الحياة الزوجية والاسرية انعكاسات الحجر لمنع تفشّي فيروس “كورونا” وتمدّده، ليرخي الوضع الاقتصادي والمعيشي بالغلاء والعوز وارتفاع معدّل الفقر والبطالة بثقله عليها ويضعها على شفير التدهور.
وأكّدت المحاكم الشرعية والابرشيات الكنسية ارتفاع نسبة المشاكل الزوجية اثر جائحة “كورونا” وما ترتّب عنها من حجر وبطالة، والجائحة الاقتصادية وما نتج عنها من فقر وعوز وعدم استقرار، لتصل نسبة المشاكل الزوجية الى ارقام مخيفة، حيث يسجل ارتفاع نسبة المشاكل الى المئة في المئة عما كانت عليه في الأعوام السابقة، ووصلت نسبة الطلاق في الآونة الاخيرة الى 22% مقارنة مع عدد الزيجات السنوية، وهذا يُعدّ رقماً مخيفاً، ويستدعي دقّ ناقوس الخطر.
لم ينفع سليم الموظّف في إحدى الشركات (عاطل عن العمل مع وقف التنفيذ)، مرور خمسة عشر عاماً على زواجه وانجاب ثلاثة أولاد، ليقف في المحكمة الشرعية هو وزوجته نتيجة خلافات طفت على سطح مياه علاقتهما في الآونة الأخيرة ما دفع بزوجته، لأن تطالب بـ”الخلع” بعد تردّي علاقتهما منذ سنة اثر توقفه عن العمل في الشركة، وعجزه عن ايجاد عمل آخر يساعده في المصاريف اليومية، ليبرّر أنّ سبب عصبيته وغضبه عدم قدرته على تأمين بدل المعيشة لأسرته، فـ”الرجّال ما بيقتله الا لما تطلب زوجته أو بنته شيئاً فيما هو غير قادر على تلبيته، بتسوّد الدنيا بوجهه”.
غابي موظّف براتب مليونين ليرة، يشرح أنّ سبب خلافه مع زوجته بدأ على خلفية انهاء خدمات العاملة الاثيوبية لديه بعدما عجز عن تأمين راتبها الشهري 150 دولاراً وقد اصبح يساوي راتبه، ويقول: “بس وقّفت البنت عن الشغل زادت المشاكل بيني وبين زوجتي، والراتب ما عاد يكفّي اسبوعاً ولم يعد يلبّي طلبات العيلة كما في السابق وأصبحت في مزاج عصبي”، هذا المستجد خلق توتراً بينهما ادّى الى دعوى تفرقة في الأبرشية، فيما مصير طفليهما ما زال معلّقاً، ليدفع النفقة الشهرية عنها وعنهما بانتظار قرار الكنيسة بعد اتفاقهما على بطلان عقد الزواج.
التدهور الأسري أخطر
ويشرح القاضي الشرعي طالب جمعة لـ”نداء الوطن” الأسباب التي أدّت الى ارتفاع نسبة الطلاق والمشاكل الأسرية، ويقول: “أبغض الحلال هو الطلاق، انّما الخلافات الاسرية في الاساس موجودة نتيجة انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وازدادت أكثر وتضاعفت بسبب انتشار “كورونا” والحجر المنزلي، والازمة الاقتصادية التي تنعكس على الاسر بالبطالة والغلاء الفاحش”. ويدقّ جمعة ناقوس الخطر معتبراً أنّ ما تشهده الاسر اللبنانية من ارتفاع في نسبة الطلاق والمشاكل الزوجية انهيار أسري رهيب، لا يقتصر فقط على الزوجين انما على باقي افراد الاسرة وانعكاساته على الواقع النفسي للأبناء، وهذا يرتّب أموراً مجتمعية مغايرة للواقع الأسري”.
ويرى القاضي جمعة أنّ أخطر أنواع الانهيار في المجتمعات هو تدهور الوشائج الأسرية، لما لها من ارتدادات سلبية وقاهرة على نفسية الابناء وتربيتهم، ويقول: “أتت الازمة الاقتصادية في ظل ازمة “كورونا” والتي كان لها مفاعيل سيئة على الزوجين نتيجة الحجر المنزلي والاحتكاك بين الزوجين والذي أدّى أيضاً الى مشاكل لم نشهدها قبل، ليزيد الطينة بلة عجز ربّ الأسرة عن تأمين ما تعوّدت الأسرة عليه قبل الازمة”.
ويؤكّد أنّه “بسبب انتشار فيروس “كورونا” ارتفعت نسبة الزواج للهروب من كلفة حفلات الأعراس ومحدودية المدعوين”، ليضع كامل المسؤولية على السلطة السياسية “التي لم تهتمّ لما ينتج من تجاذباتها واخفاقاتها في تذليل الازمات”، ويقول: “من المعيب الاستمرار في دفن رأسها في الرمال، لأنّ التدهور الأسري هو أخطر أنواع انهيار الهيكل”.
اما الاب ايلي أبو شعيا، مسؤول مركز الاصغاء في ابرشيه الفرزل وزحله والبقاع فيستهلّ حديثه لـ”نداء الوطن” بالقول “إنّ القلة بتولد النقار”، لينطلق الى توصيف الواقع المستجد على الاسر اللبنانية والمشاكل التي ترافق الازمة، ويشرح دور المركز الاصلاحي في المطرانية بين الزوجين، وهو الاصغاء بعد تعثّر الوضع معهما مع كاهن الرعية، بهدف المصالحة للحفاظ على سر الزواج المقدس، ويؤكّد ارتفاع نسبة المشاكل الزوجية الناتجة من تردّي الوضع المعيشي ومن الحجر جرّاء “كورونا”، والاسباب التي نطلع عليها والمهمة هي بنتيجة الوضعين الاقتصادي والكوروني مع بعضهما، الحجر في المنزل والبطالة والغلاء.
وقسّم الخلافات الزوجية الى اربعة أقسام: قسم من الأزواج يأذون أنفسهم فيعرضون أجسادهم للأذية نتيجة العصبية الزائدة، لعدم قدرتهم على تأمين حاجات عائلاتهم. القسم الثاني هو الخلاف المالي، فالقلة المالية تولّد مشاكل كبيرة تدفعهم الى مركز الاصغاء لحل المشاكل وبعضهم نحيلهم الى المحكمة الابتدائية الموحّدة، بينما القسم الثالث يتمثل بحالات نفسية خلافية نتيجة انعكاس الوضعين المالي والكوروني على نفسية الزوجين، التي تتحوّل الى مشكلة نفسية صعبة ومستعصية. حيث أن 90% من الدعاوى المقدّمة هي ذات طابع نفسي مضطرب. اما الرابع فخلافات ناتجة عن الهاتف الخلوي وشبكات التواصل الاجتماعي بعد مكوث الرجل في المنزل. ليختم “المشكلة أنه لم يعد لعدد سنيّ الزواج اي قيمة وأهمية عند البعض، فمنهم من مضى على زواجهم اكثر من 25 سنة، حتى أن الاولاد اصبحوا يريدون بطلان زواج والديهم بعد عجزهم عن مصالحتهما”.